الاقتصاد العراقي و اشكالية العملية السياسية

المنشوراتکتب

رأس المال السياسي.. دولة هشة بلا خصوبة

مازن صاحب

هناك من يمنح لغة الأرقام رونق الشعر، وحين يصدر كتابا جديدا  لمعهد عراقي متخصص بلغة الأرقام الاقتصادية واشكالية العملية السياسية في زمن  قل فيه التحليل وزاد التنظير عن تلك الحلول الناجعة التي يمكن للحكومة العراقية الاتيان بها للخروج من عنق زجاجة الأسوأ في أزمات اقتصادية متوالدة بسبب تذبذب أسعار النفط  وما يمكن ان ينتج من جائحة كورونا ، يبدو الكتاب الذي بين أيدينا بعنوان ((الاقتصاد العراقي  واشكالية العملية السياسية )) الصادر عن المعهد العراقي للإصلاح الاقتصادي،هذا الفريق  البحثي الذي يقوده الدكتور  كمال البصري بمشاركة أربعة باحثين متخصصين بفروع العلوم الاقتصادية للسياسيات المالية والنقدية  والإدارية يمنح القارئ جولة تحليلية لما كان وما سيكون  من وقائع  في  الحياة الاقتصادية العراقية وعلاقة الترابط المصيري التي  انتهت الى ما انتهت اليه من  أزمات  بسبب  إشكاليات مفاسد المحاصصة في العملية السياسية برمتها .

يؤكد البصري على ان ((المشكلات الاقتصادية في العراق بالقوت الحاضر ليست مشكلة ندرة الثروات ولا مشكلة عدم توافق قوى وعلاقات الانتاج بقدر ما هي ضعف الإدارة السياسية ذلك الضعف الذي انعكس على قلة الخصوبة الاقتصادية)).

ويكرر في  كتابه  ما سبق وان سمعته منه في ندوات ومؤتمرات علمية في سنوات  مضت  ان  المعيار الديمقراطي  للتداول السلمي للسلطة لم يترجم  فعليا الى حلول  ناجعة في المصالحة الوطنية  لكي  تثمر  تلك الخصوبة الاقتصادية  التي  يمتلكها العراق في  موارده المتعددة .

دولة هشة

هذه الخلاصة في القول  لما يجب ان يكون  ، عالجها الكتاب  في أربعة فصول ، تناول الفصل الأول بعنوان  ( القطاعات  الإنتاجية  والمؤشرات الاقتصادية الذي كتب بمشاركة الدكتور البصري  مع الدكتور  زياد طارق ، لمقارنة تفصيلية ما بين العدالة الاجتماعية  حيث تعد العدالة  الاقتصادية جزءا منها ، اذ تركز على الإنتاج ،مدخلاته ومخرجاته ،حق مشاركة الافراد في عملية  الإنتاج من اجل الحد من التفاوت الطبقي ، وحدد الباحثان  ثلاثة مبادئ للعدالة  الاقتصادية تتمثل في مبدأ المشاركة في فرص متساوية مجتمعيا في العملية الإنتاجية ، ومبدأ التوزيع لعوائد العملية  الإنتاجية ، مبدأ التصحيح لاي انحرافات على  معدلات رفاهية  المجتمع ، فيما  ما زال العراق يصنف من ( الدول الهشة ) وفق معايير  دولية تجسد  واقع البلد في مؤشرات التماسك من خلال  مؤشر الامن ومؤشر النخب الحزبية المهيمنة على الدولة ومؤشر مجموع المظالم التي تعكس الانقسامات داخل المجتمع ذاته ، يضاف الى ذلك التراجع الاقتصادي في معدلات التضخم والبطالة وتالك الفجوة بين الريف والمدنية وتأثيرات كل ذلك على هجرة العقول العراقية  لأسباب  ربما تتعلق بالمؤشرات السياسية  مثل  مؤشر شرعية الدولية  من خلال  انفتاح الدولة على  مواطنيها مما يظهر جليا على مستوى الخدمات العامة   والالتزام بحقوق  الانسان وسيادة القانون  الأمور التي تعكس مؤشرات الضغوط الديموغرافية  المتعلق بالغداء  والمياه مامونة الاستخدام وغيرها  من مستلزمات استدامة الحياة ، يضاف الى كل ذلك مؤشر التدخل الخارجي ،  ويؤكد الباحثان على ان  مقارنة جميع هذه المؤشرات على عراق اليوم  تجعله يظهر  في  جداول التقييم الدولية ، يعاني  من هشاشة كبيرة مقارنة ببعض الدول الريعية  ( النفطية )مثل السعودية  والامارات والكويت.

الجانب المالي

تناول الفصل الثاني من الكتاب الذي  كتب شراكة بين الدكتور كمال ابصري والدكتور يوسف الاسدي،  تفاصيل  مسهبة  عن النظرية الهجينة للرؤية الاقتصادية  العرافي في ادارة المال مما أدى الى ظهور إشكالية العجز واليدن العام  وعدم القدرة على  تعظيم  الإيرادات  وترشيد النفقات العامة، وسعى البحث الى تحليل كل مفردة  من هذه المفردات ضمكن  جداول رقمية لتوضيح الإيرادات العامة حيث يمثل النفط 93.7% وأساليب تعظيم الموارد غير النفطية مثل الإيرادات  من الضرائب  والكمارك  وعقارات الدولة  فضلا  عن ضبط الانفاق التشغيلي  لترشيد سياسة الانفاق الحكومي ،  وشدد البحث على أهمية الاحتراز الدائم  من تقلبات  أسعار النفط كاجراء مطلوب في الإصلاحات الماية  ، إضافة الى رفع  نسبة  مساهمة الإيرادات النفطيةو بالتخصيصات الاستثمارية ومغادرة التمويل بالاساليب التقلدية وإصلاح الأجور والرواتب  من اجل إحلال موازنة برامج  تقويم الأداء بدلا  من برامج البنود التشغيلية  والاستثمارية حتى تتمكن الدولة  من الاتيان بخطوات مطلوبة  لمعايير  شفافية الموازنة المفتوحة  التي  لم يتجاوز التزام العراق بها  نسبة 3% فقط !!

الجانب النقدي

حدد الفصل الثالث من الكتاب الذي شارك في كتابته الدكتور كمال البصري والدكتور فلاح ثويني، مفهوم الاستقرار النقدي المفترض لعراق اليوم ومحددات هذه السياسية ما بين العجز في صافي الإيرادات الكلية وعجز الموازنة العامة للدولة والوضع السياسي والأمني الذي تنعكس تأثيراته على معظم الجوانب الاقتصادية  يضاف الى ذلك ضعف البنى التنظيمية  والإدارية والتقنية  للمصارف وضعف كفاءة المؤسسات ذات العلاقة بعمل البنك المركزي مما أدى الى عدم اكتمال دورة هذا النشاط الاقتصادي وجعلها تقتصر على الطلب الاستيرادي  الاستهلاكي غير المنتج والذي  هو المحور  لنشاط السياسة النقدية عن طريق نافذة بيع العملة الأجنبية .

إشكالية ضعف  الأداء الاقتصادي

حاول الدكتور كمال البصري والأستاذ مضر سباهي في الفصل الرابع من هذا الكتاب ملاحقة  المعايير الدولة  عن الحكم الرشيد وتطبيقاتها على  واقع العراق ، ولعلها المرة الأولى التي  يطرح فيها  بتحليل اكاديمي مفهوم  ” التنمية السياسية في عراق اليوم ”  من خلال  التعريف بمفهوم ” راس المال السياسي الذي يتمثل في القدرة  على وضع تشريعات نوعية وتطبيق القانون  وكلاهما يمثلان “ماسسة” الدولة  من خلال مجموعة القيم والأعراف والعادات السائدة كضوابط  ذاتية للالتزام بحماية الدولة للحقوق العامة لتوفير الحوافز للأداء  الأفضل ، وقدم الباحثان  تفاصيل  ممتعة عن مقارنة العراق بعدد من الدول في هذا السياق  يمكن  ملاحظتها في الرسوم البيانية المرفقة .

الحكم الرشيد :

وحدد الباحثان مؤشرات الحكم الرشيد في تطبيق الشفافية وتعني ان جميع القرارات بما فيها التخصيصات المالية في الموازنة قد تم اقرارها او تخصيصها بشكل شفاف. فالمواطن ينبغي ان يعي لماذا اتخذ القرار او ماهي الجدوى وكيف تم اتخاذه.  الشفافية تشجع على الانتماء وروح المواطنة الصالحة وتكبح جماح الفساد.

إضافة الى  المشاركة و تعني مشاركة المواطن ومؤسسات المجتمع في الشأن العام،  وتعني على صعيد المؤسسات قيام القائمون على امر المؤسسات بالتشاور مع المنتسبين في صناعة القرارت. حيث تنعكس تلك القرارات فيما بعد ايجابيا على اجواء العمل ويشعر الجميع بالانتماء للمؤسسة التي يعملون بها.

فيما تعني  المساءلة والمحاسبة بان يكون اصحاب القرار مستعدون لتحمل تبعات قراراتهم وذلك من خلال وجود الية ميسرة تسمح للمواطن او منظمات المجتمع المدني بالمساءلة،  وتشمل المساءلة عن كيفية اتخاذ القرار والجدوى من القرار واسلوب تنفيذه او النتائج المترتبة على ذلك.  لاشك ان وجود المساءلة تحفز ان تتخذ القرارات بدقة وثقة عالية بقصد حفظ الحق العام.

يضاف الى ذلك اعتماد الكفاءة في جميع القرارات بمعنى ان تكون القرارات تمثل افضل البدائل المتاحة، وهي حالة لا يمكن الوصول اليها دون منهجية علمية لتقرير اولويات العمل او الافضلية بالاستخدام وبما يحقق افضل المردودات.  بعكس ذلك لا تستطيع الحكومة او المؤسسة ان تحقق افضل العوائد.

فيما  يحقق مبدأ  سيادة القانون  ان جميع تصرفات او قرارات المسؤولين الحكوميين تستند الى قوانين،  وان القانون يفرض على الجميع بدرجة واحدة على جميع الاقاليم والمحافظات، وعلى جميع المواطنين بغض النظر عن خلفيتهم السياسية او الدينية او العرقية.

اما  المساواة والاندماج الاجتماعي فتعني ان المساواة الحكومية مبنية على التعامل مع المواطنين بصورة متساوية دون تحيز وبما يعزز من اللحمة الاجتماعية بين مكونات المجتمع، ان وجود اللحمة الاجتماعية يعزز من الاستقرار السياسي الضروري ويوفر الدعم لتحقيق الاصلاحات التشريعية وقوة تنفيذا المشاريع الحكومية.

وكل ذلك لا يتحقق من دون الرؤيا الستراتيجية التي يقتضي ان تكون للحكومة رؤيا مستقبلية ستراتيجية مستنده الى المعطيات الحالية تسعى طموحات المواطنين في تنمية مستدامة.

خيارات عراق

يرى الباحثان ان الاعتقاد السابق كون الدول التي تتمتع بثروة بشرية وطبيعية هي الدول التي تستطيع قطع شوطا كبيرا بالتنمية ولكن سرعان ما تبدد هذا الاعتقاد مقابل دول حققت التنمية وهي لا تملك من الثروات الطبيعية ( دول شرق اسيا ) ما دام العامل الأهم هو تحقيق قدر مناسب لسيادة القانون تصان به حقوق الملكية فمن خلال  مطالعة لتاريخ شرق وجنوب شرق اسيا نجد هناك أربعة  موجات للتنمية قد  تحققت بفضل سيادة القانون للحكم الرشيد وتطوير مستوى التعليم وتعزيز  سياسات تجارية توفر رصيدا من العملة الأجنبية من خلال التشدد في ابعاد العامل السياسي عن القرارات الاقتصادية ، وتمثل هذه الموجات ،حسب الكتاب، الموجة الأولى ( اليابان ،كوريا ،تايوان) الموجة الثانية ( سنغافورة ، هونغ كونغ ) الموجة الثالثة ( تايلند ، إندونيسيا ، ماليزيا ، الفلبين ) فيما تمثل الصين الموجة الرابعة .

وبذلك يستنتج الكتابان المعضلة العراقية لا تتعلق بالاقتصاد بل في غياب السياسات السليمة والتشريعات الضرورية وغياب سلطة فرض القانون نتيجة ضعف تطوير راس المال السياسي للقوى المتصدية للسلطة مما يجعل الباحثان يقدمان نموذجا رباعيا لتحليل مستقبل العراق ما بين التفاؤل وخيبة الامل والياس والفرص الضائعة كما موضح في الشكل المرفق.

يبقى  من القول ، ان هذا الكتاب جدير ان يضعه كل  من يتصدى للسلطة اليوم امام ناظريه ، لعل وعسى ، لعل وعسى  يتنس له  فرضية الاهتمام بمطالعته ، والعمل على تطبيق الأفكار التي جاءت فيه ، ربما يتوقف الانحدار السلبي  في عراق اليوم  ونفكر  بالتطور  الإيجابي  لعراق الغد  ولله في خلقه شؤون !

Comment here