المواطنة الصالحة والمشكلة الاقتصادية

1. المشكلة بشكل عام  

نحاول في هذا البحث الاجابة عن التساؤلات التالية: ماهي المشكلة الاقتصادية الحالية؟  وهل غياب المواطنة أو عدم الانسجام بين المصلحتين الخاصة والعامة دور في المشكلة؟ وهل نستطيع الاعتماد على العوائد النفطية في حل المشكلة؟. لتسبيط تناول الموضوع، سوف نركز في هذه المقالة على المشكلة الاقتصادية من زاوية تحديات اعادة الاعمار، والتي تتلخص في ضعف الطاقة الاستيعابية للاستثمار او تخلف نسب التنفيذ، والتي تؤدي إلى استمرار معاناة المواطن في الفقر والحرمان.

ان المشكلة الاقتصادية بمعناها الشمولي متمثلة بمشكلة الفقر والحرمان قد شغلت الفكر الاقتصادي منذ القدم.  عرفت المشكلة الاقتصادية تارة (عند الماركسية) بالتناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، بمعنى التناقض بين طموحات وارادة القوى العاملة وبين الاعراف والقوانين التي تحكم عملية الانتاج السائدة.  وتارة اخرى (عند الرأسمالية)  عرفت بندرة الموارد الاقتصادية بالنسبة لحاجات الانسان، بمعنى عدم كفاية الموارد الاقتصادية لاشباع رغبات الانسان.  وقدمت التجربة الدولية تحديا لكل من الرأسمالية و الماركسية، فلم تكن الندرة عائقا لنمو وتطور بعض الدول التي تنقصها الموارد (كاليابان وسنغافورة)، فقد استطاعت القدرة الخلاقة للانسان ان تتتجاوز مشكلة الندرة.  ولم تستطع الماركسية ان تفسر استمرار الرأسمالية في انكلترا دون تحولها الى نظام اشتراكي (كما كانت تتوقع ذلك).  فلم يكن هناك صراع، اذ استطاع النظام الرأسمالي ان يجدد نفسه متمكنا من معالجة المشكلات التي تنشأ نتيجة للتطور الاقتصادي.  

أما بالنسبة للحالة الاقتصادية العراقية، فقد مر العراق بجملة من الظروف السياسية التي وصلت بالانسان العراقي الى ماهو عليه من فقر وحرمان وتخلف. فعلى الرغم من توفر الموارد الاقصادية الكثيرة والمتعددة في العراق (مقارنة بالدول الأخرى)،  اذا ان نسبة كبيرة من المجتمع العراقي يعاني من صور مختلفة من الفقر بسب ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة.  وتبذل حاليا جهود وطنية ودولية لرفع اداء الحالة الاقتصادية.  فيا ترى كيف نحلل المشكلة الاقتصادية وكيف نتجاوزها؟

اما عنوان المواطنة، فالمقصود بها تلك المشاعر التي تربط الانسان بالوطن (احترام القوانين العامة مثلا)، وطبيعي تنمو مشاعر المواطة كنتيجة لمايمتع به الفرد في وطنه: من عدل وتربية وتعليم وامن … الخ. انها مشاعر الوفاء والالتزام المتبادة بين الفرد والدولة. وقد عبر عنها في الادبيات السياسية  “بالعقد الاجتماعي” حيث تقوم الدولة المنتخبة بتقديم الخدمات المختلفة للفرد، مقابل ان يقوم الفرد بالالتزام بالتصويت العادل واحترام القوانين العامة. والفرد بهذا السلوك غالبا ما يتنازل عن حقوقة الشخصية لصالح الحق العام (كما في حالة دفع الضرائب).

  

2. عوامل المشكلة الاقتصادية

سنقتصر على  تناول المشكلة من زاوية محددة وهي مشكلة اعادة الاعمار، والتي تحتل اهمية قصوى في جدول اعمال الحكومة العراقية. فعلى الرغم من التخصيصات المالية الحكومية  للمشاريع الاقتصادية، نجد ان هناك ضعفا في قدرات استخدام تلك التخصيصات. فعلى سبيل المثال في عام 2007  تم تخصيص 12 ترليون و ومبلغ 3 ترليون دينار دينار لمشاريع استثمارية تنفذها الوزارات ولمشاريع تننفذه الأقاليم او المحافظات (على التوالي). الا ان نتائج استخدام تلك التخصيصات (او تنفيذ المشاريع) كانت على الشكل التالي: 68% للوزارات و 74% للمحافظات (وهي في الحقيقة نسب جدا متقدمة بالنسبة للاعوام الاخرى).  ان عدم القدرة على استخدام التخصيصات يعني استمرار فقر المواطن وحرمانه من الحصول على فرص العمل، وعدم القدرة على انتاج الخدمات الاساسية (كالكهرباء، والخدمات والبلدية، والطرق، والاتصالات… الخ).  في وقت تشير نتائج مسوح ميزانية الأسرة لعام / 2003  (وهي احدث احصائية متوفرة) بأن نسبة الأسر التي تعاني من الفقر المدقع بلغ 11%  (وهي الحالة التي لا يستطيع فيها الانسان خلال دخله الوصول الى اشباع حاجاته الغذائية لتأمين عدد معين من السعرات الحرارية التي تمكنه من مواصلة حياته عند حدود معينة )، والنسبة التي تعاني من الفقر المطلق 43% (الفقر المطلق: هو الحالة التي لا يستطيع فيها الانسان عبر التصرف بدخله، الوصول الى اشباع حاجاته الاساسية المتمثلة بالغذاء، والمسكن، والملبس، والتعلم، والصحة، والنقل). هذا يعني بأن أكثر من نصف السكان يعاني من نقص الاحتياجات الأساسية كالغذاء والرعاية الصحية والتعليم والسكن الملائم وغيرها من الخدمات.

ولغرض دراسة المشكلة والتعرف على جميع مفاصلها،  قمنا بدراسة سابقة باعداد استبيان للوزارات يشمل تحليل مقاولات التنفيذ ومقاولات التجهيز المحلي والخارجي، وشمل الاستبيان العمليات المتعلقة بالاعلان والاحالة والتعاقد وصولاً الى التنفيذ،  وبعد استلام الاجابات تم تحليلها وجائت النتائج  كاشفة عن مجموعة من  العوامل التي يمكن تصنيفها الى: 

  

1. العوامل الخارجية:  وتشمل غياب كل من الامن وسيادة القانون، حيث كانت القضية الامنية عائقا في حركة نقل مستلزمات العمل والقوى العاملة وعلى التعاقد مع المقاولين من ذوي الخبرات والمواصفات الجيدة.  

2. العوامل الداخلية: وتشمل عوامل تتعلق بكفاءة العمل داخل المؤسسات (عدم تهيئة الموقع في الوقت المناسب، عدم تحديد مدة لفتح وتحليل العطاءات واحالة العقود ، وغياب كشف متكامل بالعمل، والتأخر في قرارات البت في اوامر التغيير ومدة الاحالة، التخوف من اتخاذ قرار الاحالة،  وسوء كفاءة الاشراف على المشاريع، وتأخر لجان الفحص، وعدم استكمال اعداد الخرائط للمشاريع، وتبين ان غياب الوضوح  بالمواصفات الفنية لمقاولات التجهيز والاستيراد كانت أسبابا مهمة في تفسير ضعف التنفيذ.   

3. العوامل المتعلقة بالتعليمات والاجراءات الحكومية:  وتشمل اجراءات الروتين والمركزية عند إتخاذ القرارات.  واصلاحها يتطلب تقليص المركزية واعطاء جهات التنفيذ صلاحيات اكبر، وتبسيط اجراءات التعاقد.  واخيرا اشارت نتائج الاستبيان الى:  ان تأخر حصول موافقات اللجنة الاقتصادية، وتعليمات العقود، واجراءات وزارتي التخطيط والمالية  كانت عائقا لسرعة التنفيذ.

  

3. الاستنتاجات والتوصيات:

من تحليل نتائج الاستبيان نجد ان هناك خللا في جميع مفاصل اجراءات التعاقد والتنفيذ، وهذه ظاهرة جديرة بالاهتمام.  مما لاشك فيه ان العوامل الداخلية تشير الى عدم ممارسة العاملين لادوارهم بالكفاءة المطلوبة.  وغياب الكفاءة يمكن ان يفسر تارة بالتقصير وتارة بالقصور. فالتقصير يستلزم ايجاد الحوافز الضرورية المعنوية والمادية، واما القصور فيتطلب تدريب وتأهيل ووضع الشخص المناسب في الموقع المناسب. غالبا ما يعتقد موظفوا المؤسسات (الجهة المتعاقدة) ان دورهم ينتهي بمجرد ابرام التعاقد مع المقاولين.  هنا تأتي ضرورة قيام مشاركة حقيقة بين المتعاقد والمنفذ. ويجب النظر الى المنفذ بانه جهة متحالفة تساعد على تحقيق اهداف الجهة المتعاقدة التي يجب ان ترعى حسن اداء المنفذ وتمكنه بكل ما تستطيع من قوة.  فيجب ان تأخذ بيده وتمكنه من تجاوز البيروقراطية السائدة بين دوائر الدولة.  فان الحالة المثلى التي يكون فيها المنفذ متفرغا للتنفيذ دون انشغالات جانبية عند ذلك يتحول العقد الى عقد شبه تضامني (او عقد شراكة) بموجبه يتم تدارس الصعوبات والتحديات التي ستواجه المنفذ. عندها تتحول تحديات المنفذ الى مشكلات الجهة المتعاقدة (فكثيرا ما تكون تحديات المنفذ ناجمة عن عدم اكتراث الجهة المتعاقدة).

ان التخصيصات الاستثمارية التي تخصصها الحكومه لا تشكل في الحقيقة إلا نسبة ضئيلة من المبالغ الضرورية لاعادة الاعمار (التي تقدر بـ 187 مليار دولار).  وإذا ما استمر ضعف الاداء بهذا المستوى، فان معالجة معانات الفرد سوف تمتد لفترة اطول.  من الواضح ان هناك نسبة كبيرة من مشاكل التنفيذ تجد حلولها من خلال تحسين اداء المسئول وبالاخص تنمية الشعور بالمسؤولية والامانة في تأدية الواجبات. والسوأل الكبير كيف نستطيع اثارة الهمم ورفع مستوى الاداء؟  وكيف نستفيد من تجارب الدول الاخرى؟

 

لقد افرزت الحقبة السياسية الدكتاتورية الماضية ممارسات وسياسات بعيدة كل البعد عن الشعور بالمواطنة. فكانت تلك الممارسات  بدلا من حماية حقوق الفرد (المادية والمعنوية) كانت في واقع الحال سببا مباشرا في هدر تلك الحقوق. فولدت تلك الممارسات في نفس المواطن المحروم حقدا او ضبابية جعلته يثأر من الدولة وممتلكاتها.  لقد كانت (ولازالت) ممارسات الفرد عقب الاحتلال تتجسد بحالات النهب والسلب للمصالح العامة والتعدي على الحقوق الخاصة للآخرين. وبعبارة أخرى أدت تلك الممارسات والسياسات الخاطئة الى طغيان الانا ومن ثم التعارض الكبير وعدم التوافق بين المصالح الخاصة والعامة، وهو من وجهة نظرنا العامل الرئيسي في استفحال مشكلات الفساد الاداري والاقتصادي في العراق. ان المواطنة هي المشاعر التي يتمتع بها المواطن وبموجبها يتنازل عن مصالحه الخاصة من اجل الصالح العام.  هذه المشاعر تنمو وتترعرع عندما تكون الدولة عادلة في توزيع الثروات وحامية لحقوق الفرد المدنية والسياسية. وتلعب خدمات التربية والتعليم والاديان والافكار الاجتماعية دور في تنمية تلك المشاعر التي يعبر عنها المواطن باشكال مختلفة: العمل الطوعي، والحرص على دفع الضرائب، والمشاركة في الانتخابات، وحماية الحق العام … الخ.  ولكن غياب المواطنة الصالحة يؤدي إلى شيوع الفساد المالي (التجاوز على المال العام) والفساد الاداري (غياب الشخص المناسب عن المكان المناسب او عدم اداء العمل بالشكل المطلوب).

لدى المقارنة بين الدول الغنية والفقيرة للوقوف على مصادر وعوامل الرخاء، لا نجد للعمق التاريخي، ولا لتوفر المواد الاقتصادية، ولا لنوع الديانة، أو لون البشرة تأثيرا يذكر،  بل نجد الدول الغنية تتصف بشكل عام: باحترام المواطن للقانون، وبأداء العمل الطوعي، وبالاداء الامين للاعمال، وبالقبول بالطرف الاخر، وبالايمان بالقيم الانسانية … الخ.  وفي دراسة علمية اعدها اين وكر ( Ian walker ) رئيس معهد فريزر الكندي (Fraser Institute) تهدف الى تفسير الرخاء الاقتصادي في بعض الدول (شملت الدراسة 135 دولة)، وجد أن تطبيق متطلبات الحرية الاقتصادية عامل مهم، ولكن العامل الاكثر اهمية هو تطبيق سيادة القانون. واثبت الباحث إحصائيا وجود علاقة طردية بين سيادة القانون (من جهة) وتطور الناتج المحلي الاجمالي، وحجم الاستثمارات الاجنبية، والعمالة، وحرية التعبير، والشعور بالمسؤولية، وعكسيا مع نسبة البطالة، ونسبة الفساد، وسوء توزيع الثروة.  ان سيادة القانون تعني احترام المواطن للقوانين والتعليمات العامة،  وان هناك نوعا من التوافق بين الصالح العام والخاص.  ويتعزز القول عندما نراجع تجربة الاصلاح  المتقهقرة في روسيا وبعض دول امريكيا اللاتينية بسب غياب الاسس الضرورية لسيادة القانون.  وفي البوسنة أدى التعدد العرقي والولاء له وغياب الشعور بالانتماء للوطن الواحد الى فشل كثير من الجهود الاصلاحية.  ان الحالة الاقتصادية المتطورة في “دبي” لم تكن لتتحقق دون توفر التشريعات القانونية المناسبة واحترام سيادة القانون، فلم يكن التطور نتيجة لسخاء الطبيعة ولا للطبيعة المتميزة للانسان الاماراتي.  ان المواطنة الصالحة هي الطاقة والروح الضرورية لحركة جميع مفاصل الدولة.  انها العامل المفسر للتطور والرقي ويمكن أن نختزل الأمر إلى حالة الانسجام بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة التي تلعب المواطنة دورا كبيرا في بلوغ هذا الانسجام.

ان استكمال متطلبات العملية السياسية والاهتمام بالتربية والتعليم، وتطوير عمل المؤسسات الدينية وجمعيات المجتمع المدني في نشر “مبادئ العقد الاجتماعي”،  ستؤدي الى تعزيز المواطنة الصالحة.  تلك المواطنة التي اعادت لالمانيا الغربية المدمـّرة الحياة (بعد الحرب العالمية الثانية).  يذكر التاريخ، على سبيل المثال، أن معامل “الفوكس واكن” الشهيرة بانتاج السيارات لم تستطع ان تلتقط انفاسها لولا قيام العاملين بعد الحرب مباشرة بالعمل دون مقابل والى حين.  وتعبيرا عن الاهتمام التزايد بالمواطنة، امر رئيس الوزراء البريطاني مؤخرا بتشكيل لجنة بقيادة “اللورد كولدسمث”، باعداد دراسة عن دور المواطنة في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية. واكملت اللجنة اعمالها في نيسان 2008،  ومن جملة التوصيات: التأكيد على احترام حرية الفرد وعدالة الدولة في ممارسة نشاطاتها المختلفة لمختلف مكونات المجتمع وتعميق ممارسات العمل الطوعي باستخدام الحوافز المادية.  

ان الدولة العراقية احوج في هذه الظروف إلى تطوير البرامج الداعمة للمواطنة.  فلا امن يتحقق، ولا استقرار سياسيا، ولا تطور اقتصاديا يرتجى دون مواطنة صالحة. من الاجراءات المطلوبة هو ان تتبنى الحكومة:

  1. تشكيل لجنة خاصة بشأن تنمية الشعور بالمواطنة الصالحة على ان تقوم اللجنة باعداد الدراسات والتوصيات.
  2. وضع الحوافز المادية للانخراط المواطنين بالتعليم ابتداءا من التعليم الابتدائي رفع مستوى الوعي والقضاء على الامية.
  3. وضع التخصيصات المالية لدعم جمعيات المجتمع المدني في تعميق الممارسات التي تصب في تنمية المواطنة الصالحة. على ان تصرف ضمن ضوابط وعلى مشاريع محددة كالتي تسهم في نشر الامن وتنفيذ المشاريع الخدمية. ويشمل هذا التوجه تطوير عمل المؤسسات الدينية في مجال تعزيز المواطنة الصالحة واحترام سيادة القانون ونبذ الخطاب الذي لايصب في خدمة التنوع العراقي وتحريم الممارسات التي فيها تجاوزات على الصالح العام والانسان.
  4. استكمال متطلبات المشاركة السياسية، اذ إن ممارسة العدالة في نهج الدولة والحكومة شرط ضروري لخلق اجواء المواطنة الصالحة، وأن المحاباة والمحاصصة، حزبية كانت أم طائفية، هما تغييب للكفاءة والعدالة.
  5. قيام الحكومة سنويا بتكريم الموظفين والعاملين المبدعين، والاشخاص (او العشائر او المؤسسات الدينية او منظمات المجتمع المدني) الذين لهم دور طوعي في بناء المواطنة الصالحة او في إقامة المشارع الخيرية المتميزة.
  6. معالجة الفقر بنشر منافع مشروع الحماية الاجتماعية بالسرعة المطلوبة وبالتعاون مع لجان محلية. اذ ان ذلك يعزز الشعور بالتكافل الاجتماعي ويقلل من الاثار السلبية للفقر.

Comment here