تأخر اعمار البنى التحتية: مسؤولية من ؟

لغرض تجاوز اخفاقات السنوات الماضية تسعى المقالة الى البحث عن العوامل التي ساهمت في تاخر تقديم الخدمات الاساسية للمواطنين من خلال تشخيص متطلبات الاعمار المالية والتشريعة و التنفيذية. وتستنج المقالة ان الخيار الستراتيجي للاعمار كان ولازال هو تبني الحكومة “عقود مشاركة القطاع الخاص للعام” وذلك بسبب استمرار غياب التشريعات المرنة وضعف بيئة الاستثمار وشحة تخصيصات الموازنة الاتحادية الاستثمارية وغياب الشعور بالمسؤولية والقدرات الفنية لادارة المشاريع في الدوائر ذات العلاقة.

تخطيط الموارد المالية:

بسبب الاوضاع السياسية التي مرت بالعراق بعد الحرب العراقية الايرانية والتي ألت الى انهيار في البنى التحتية، تم تقدير تكاليف اعادة الاعمار بعد 2003 ب 187 مليار دولار للفترة 2007-2010 وفقا لتقديرات الاحتياجات الأساسية للقطاعات الاقتصادية المختلفة والتي تمثل الحدود الدنيا للاستثمار المطلوب لاعادة الاعمار وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين وهي موزعة كما في الجدول التالي :

تقدير الاحتياجات الاستثمارية للقطاعات الاقتصادية للسنوات 2007-2010

مليار دولار

المؤشرات

2006(1)

2007

2008

2009

2010

المجموع

07-2010

النفقات الاستثمارية

 

 

 

 

 

 

القطاع النفطي

3.4

8.4

8.7

9.3

9.6

36.0

الكهرباء

 

6.0

4.4

3.5

2.6

16.5

الموارد المائية

 

1.0

1.5

1.5

1.2

5.2

الزراعة

 

1.1

1.0

1.0

1.0

4.1

الصناعة

 

0.3

0.2

0.2

0.1

0.8

النقل

 

7.5

7.5

7.5

7.5

30.0

التشييد

 

1.5

1.5

1.5

1.5

6.0

الإسكان

 

10.0

12.0

15.0

15.0

52.0

الصحة

 

2.5

3.3

4.4

4.5

14.7

التعليم

 

0.6

0.6

0.6

0.6

2.4

الاتصالات

 

0.3

0.3

0.2

0.2

1.0

الماء والصرف الصحي

 

1.4

1.9

2.5

2.7

8.0

تطوير الأقاليم والمحافظات

 

2.5

2.5

3.0

3.0

11.0

مجموع النفقات الاستثمارية

14.9

43.1

45.4

49.7

49.5

187.7

المصدر: تقديرات معدلة لتقدير الاحتياجات الاستثمارية المعدة من قبل وزارة التخطيط والتعاون الانمائي والوزارات الاخرى/ كانون أول 2003.

 

واشار تقرير وزارة التخطيط الصادر في 2006 ” ستراتيجية التنمية الاقتصادية” ان الموازنة لا تستطيع الايفاء باكثر من 43% من هذه النفقات وعلى ان يتم توفير المتبقي من خلال القروض والاستثمار. من الجدير بالذكر تم تخصيص المبالغ التالية والتي يبلغ مجموعها 79.77 مليار دولارا من خلال الموازنات 2006 – 2010

النفقات الاستثمارية المخصصة والمصروفة للسنوات 2006 – 2010

مليار دولار

2006

2007

2008

2009

2010

المجموع

النفقات الاستثمارية (اعتمادات منقحة )

7.92

12.83

25.95

12.84

20.24

79.77

النفقات الاستثمارية الفعلية

4.51

5.63

12.80

11.19

16.64

50.77

المصدر: المعهد العراقي للاصلاح الاقتصادي

تنفيذ المشاريع الاستثمارية:

في الواقع لم تتمكن المؤسسات والوزارات استخدام اكثر من 50.77 مليار دولارا ( 2006-2010 )اي بمعدل تنفيذ 63.65%. وقد استقطب تلكؤ تنفيذ الموازنات الاستثمارية خلال 2004 -2011 اهتمامات واسعة للوقوف على عوامل المشكلة اجرى المعهد العراقي للأصلاح الاقتصادي دراستين أحداهما في عام 2008 والثانية 2011 . وكان من ابرز العوامل في مسح عام 2008 هي : العامل الامني (وانعكاساته على انتظام العمل وسهولة انسياب متطلبات العمل وعلى دخول الشركات الاجنبية)، عدم الالتزام بضوابط العمل وضعف مهارات العاملين وغياب التخطيط لعمل تكاملي داخل المؤسسة وبين المؤسسات المختلفة. في عام 2011 لم تختلف الصورة كثيرا عن عام 2008 ولكن توفرت تفاصيل اكثر عن سوء التنفيذ تجسدت بما يلي :

* عوامل خارجية : بمعنى خارج قدرة المؤسسة في التأثير عليها، وتتمثل بتأثير الظروف الامنية، وقيود ضوابط مؤسسات الرقابة، وغياب البنى التحتية الضرورية لاداء الاعمال، وتأخر اقرار الموازنات العامة، القوانين والاجراءات غير المرنة، وضعف سيادة القانون بسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها العملية السياسية.

* عوامل داخلية : بمعنى خاصة بالمؤسسة المنتجة للخدمات وتتمثل بضعف تطبيق متطلبات الحكم الرشيد ( الشفافية في اتخاذ القرارات، اعتماد الكفاءات، التخطيط بعيد المدى …الخ) وقد انعكس ضعف الحكم الرشيد على عدم وجود المعرفة الفنية في ادارة المشاريع (لجان فتح وتحليل العطاءات ،دائرة المهندس المقيم ، ضعف الامكانات الفنية من مختبرات واجهزة قياس )، وغياب حوافز الشعور بالمسؤولية ومركزية النظم الادارية وتعقيداتها لقد ادت هذه العوامل الى تأخر وعدم الاتقان بالعمل.

* عوامل ضعف العمل التكاملي بين المؤسسات المختلفة: تتمثل بالعوامل المتعلقة بالتنسيق بين دوائر الدولة المختلفة، وتشمل على سبيل المثال: ضعف تعاون اجهزة الدولة فيما بينها في موضوع تخصيص الارض، وفي قرارات اطلاق صرف التخصيصات المالية(وزارة التخطيط)، وصرف التخصيصات الحكومية (وزارة المالية)، وفتح الاعتمادات (البنك المركزي والمصرف التجاري العراقي) … الخ.

* التوسع في عدد المشاريع بشك يفوق الامكانيات التنفيذية مما يؤدي الى بطئ في تقدم العمل كما في الجدول ادناه

السنة

2007

2008

2009

2010

2011

عدد المشاريع

1519

1933

1936

2219

2364

يضاف الى ذلك تعرض النفقات الفعيلة الى هدر مبالغ طائلة لاسباب تتعلق بضعف كفاءة الادارة المالية وخضوعها للابتزاز.

ومما تقدم يظهر ان العوامل الداخلية تشير الى عدم ممارسة العاملين لادوارهم بالكفاءة المطلوبة، وان ضعف التنفيذ يمكن ان يفسر: بالتقصير الذي يستلزم ايجاد الحوافز الضرورية (المعنوية والمادية)، او بالقصور الذي يتطلب تدريب وتأهيل ووضع الشخص المناسب في الموقع المناسب. لاشك ان نسبة عالية من ضعف الاداء تعود الى غياب الشعور بالمسؤولية. أضف الى ما تقدم ان تقاليد العمل في الدوائر الحكومية تمثل تقاليدا قديمة وشاذة عن الانماط السائدة في الدول الاخرى.

واقع البيئة الاستثمارية:

تأخر تشريع قانون الاستثمار الى عام 2006 وعلى الرغم ان البيئة الاستثمارية الحالية تتميز بوجود قانون استثماري يضم الكثير من الحوافز الضرورية، الا ان التحديات لاتزال تواجه رجال الاعمال منها:

* عدم مرونه اجهزة الدولة في التفاعل المطلوب وغياب العمل بالنافذة الواحدة، ووجود ظواهر متفرقة تتجسد بعدم الانضباط الاداري .

* ضعف المصارف التجارية التي تستطيع بمرونة عالية الاستجابة السريعة لمتطلبات رجال الاعمال، وضعف تواجد شركات التأمين.

لقد ساهمت هذه العوامل جميعها في جعل البيئة الاستثمارية ضعيفة مقارنة بالدول الاخرى. وعند مطالعة المسح الذي قام به البنك الدولي ” Doing Business in Iraq ” نجد ان نتائج المسح تعكس بدرجة قاسية صعوبة ممارسة النشاطات الاقتصادية حيث تراجع تسلسل العراق من 159 عام 2011 الى 164 عام 2012 علما ان المسح يشمل 183 دولة. وقد عجزت الدوائر الحكومية من خلق الظروف المناسبة والمشجعة لاستقطاب رجال الاعمال والمقاولين الاكفاء . ومن الجدير بالذكر عند مقارنة البيئة الاستثمارية في العراق بمجموعة من الدول كالسعودية (12) ،الاردن(96)، ايران(144)، المغرب(94)، ماليزيا(18)، سنغافورة(1) (باستخدام بيانات المسح الاقتصادي الذي أعده البنك الدولي Doing Business لعام 2012 )، نجد فروقاً كبيرة تؤشر الى ان العراق يمثل نسبيا اصعب بيئة استثمارية.

انشاء مصارف للتنمية الاقليمية:

ولغرض توفير سيولة نقدية للاستثمار في البنى التحتية، تم في عام 2006 اقرار انشاء مصارف للتنمية الاقليمية (ضمن قانون الموازنة الاتحادية 2006 ) والتي تهدف لتنمية الاقاليم من خلال تحشيد الموارد الخاصة بذلك الاقليم. ووفقا لذلك يكون بمقدور هذه المصارف دعم مجالس المحافظات والاقاليم في تمويل مشاريع معينة التي يمكنها من القيام بها دون الرجوع الى الموازنة العامة. وكان الهدف هو البدء بإنشاء ثلاثة مصارف اقليمية، في المنطقة الجنوبية و الوسطى والشمالية (وربما اضافة بنوك اخرى في وقت لاحق).وكان المخطط ان تنظم هذه المصارف على اساس المشاركة بين حكومة الاقاليم اوالمحافظات وبين القطاع الخاص او المستثمر الاجنبي بما في ذلك دول الجوار او المؤسسات التجارية او المنظمات الدولية (على ان يكون للاقليم او المحافظة ما لايقل عن 50%). وكانت التخصيصات الرأسمالية لمصارف التنمية الاقليمية من وزارة المالية بحدود (500) مليون دولار تدفع على فترة ثلاث سنوات وتم تخصيص مبلغ (270) مليار دينار خلال عام 2006 لذلك الغرض حيث ستسهم المحافظات والاقاليم في رأس مال تلك المصارف. الا ان هذه المصارف لم ترى النور ولم تجد مبادرة من المسؤولين على التنفيذ ولم تجد من الاجهزة الرقابية التنفيذية والتشريعية اي متابعة لتنفيذ هذا القانون.

على الرغم ان الدستور في 2005 نص وبشكل صريح على الادارة اللامركزية وان سلطة المحافظات والاقاليم والتي تتألف من بغداد (العاصمة) واقاليم (حاليا كردستان فقط) ومن محافظات تتمتع بأدارة محلية لامركزية (المادة 116من الدستور ). تم الاقرار دستوريا بحق الاقاليم والمحافظات ان تشرع القوانين الخاصة بها بشرط عدم تعارضها مع التشريعات الاتحادية، وتمارس المحافظات حاليا تطبيق مبادئ اللامركزية . في عام 2008 تم اقرار قانون (21) للمحافظات غير المنتظمة في اقليم والذي من اسباب تشريعه هو اعطاء المحافظات الحق في ممارسة اللامركزية، و لقد اخفق هذا القانون عمليا في منح المحافظات المرونة في الاستفادة من تخصيصاتها المالية السنوية. وقد انعكس ذلك بضعف نسب التنفيذ وارجاعها لتخصيصتها الى خزانة الدولة .

قانون البنى التحتية:

ازاء ماتقدم وتحت الضغوط الملحة من قبل المواطنين وفي ضل غياب بيئة الاستثمار وغياب مصارف التنمية والتعقيدات القانونية في تنفيذ ابرام وتنفيذ العقود كان الابد من التفكير ببدائل اخرى للاسراع تخلف البنى التحتية. وضعت مسودة قانون البنى التحية في 2009 بهدف العمل على تنفيذ المشاريع الستراتيجية (كالموانئ) والخدمية (كالمستشفيات) واعادة اعمار المنشآت والبنى التحتية للمشاريع الحيوية التي لها اثر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية (من طرق وصرف صحي)، على ان تدفع تكاليف المشروعات المنجزة لصالح الشركات المنفذة خلال مدة لاتتجاوز الخمس سنوات من تاريخ تسلم المشروع ( او اية مدة يتفق عليها على ان لا تقل عن خمس سنوات من تاريخ اكمال تنفيذه). ولغرض عدم الاسراف بتحمل اعباء الديون للمشاريع المنفذة حدد القانون بأن تزيد مبالغ العقود المشمولة باحكام هذا القانون على 70 مليار دولار . لاشك ان عوائد تنفيذ القانون لا تنحصر بتوفير الخدمات المتنوعة التي يحتاجها المواطن بل تتعدى امور اخرى منها توفير عمل للبطالة ونقل التكنولوجيا. واخير فان انشاء البنى التحتية يرفع من قيمة الجدوى الاقتصادية للمشاريع التي تمثل منتجاها او خدماتها مدخلات لمشاريع البنى التحتية، وايضا للمشاريع التي يتوقف انتاجها على الخدمات التي توفرها البنى التحتية .

وبشكل مؤسف ان هذا القانون لم يجد النور لاسباب من وجهة نظر بعض النواب تتعلق : بأنه اولا يفتح الباب الفساد وهدر المال، وثانيا اغراق العراق بالديون. الا ان هذه الاسباب اقل مايقال فيها انها غير موضوعية. فالفساد والهدر في المال العام لاشك سيكون اقل لان الحكومة غير ملزمة بالدفع الى حين اكمال المشروع بالمواصفات الكمية والنوعية المطلوبة وتزداد درجة مصداقية هذه العقود كلما كانت تتمتع بالشفافية (شانها في ذلك بعقود التراخيص النفطية). اما موضوع اغراق العراق بالديون، فأن امكانية العراق بعد توقيع تراخيص العقود النفطية وارتفاع قدرة العراق التصديرية سوف تتعاظم الايرادات المالية المتوقعة، وحتى لو تحقق الدين فهو ثمن يستحق الدفع لقاء تقديم الخدمات الضرورية للمواطن والمتمثلة بالماء والكهرباء والسكن).

وقد شكل غياب الدور الفاعل لمنظمات المجتمع المدني والمراكز الثقافية والاعلامية والمؤسسات الناطقة بلسان حال المواطن عدم مناقشة تلك الاسباب مناقشة موضوعية لتصحيح المسار. في ظل هذه الظروف حال الوقت ان يكون للعراق “مجلس اقتصادي اجتماعي” يضم الطاقات المتخصصة التي يحتكم اليها في مثل هذه الموضوعات.

وازاء ما تقدم (وعملا باساليب المعاصرة وفي مختلف بقاع العالم) فان الخيار الستراتيجي للاعمار هو تبني الحكومة “عقود مشاركة القطاع الخاص للعام” والتي بموجبها تتفق الحكومة (القطاع العام) مع القطاع الخاص (الاجنبي او المحلي) على تنفيذ مشاريع البنى التحتية ضمن مواصفات وفترة زمنية محددة، وعند استلام مواقع المشاريع وبالمواصفات المتفق عليها يقوم القطاع العام بدفع المبالغ المالية (عادة لفترة زمنية 5 – 20 سنة). ومن الضروري استخدام هذا النمظ من العقود لتطوير القطاع الحاص والعام ضمن صيغة “التوأمة” القطاع المحلي مع الاجنبي.

Comment here