دكتور مظهر محمد صالح :غزوة المتحف.

مظهر محمد صالح: غزوة المتحف.:

استحوذت على مشاعري مجد بلاد ما بين النهرين عندما لامست قدمي للمرة الأولى جناح الآشوريات في المتحف البريطاني في لندن قبل سنوات مضت، واستعرت يومها جذوة في صدري ولن تنطفئ إلا أمام قطعة صخرية شغلها جدار كامل واسع المساحة في ذلك الجناح، حين اقتلعت كأثر من واحدة من مدن نينوى التاريخية لتجد مكانها في فناءِ حصين لها في المتحف البريطاني.
وكانت اللوحة الصخرية المذكورة تجسد انتصاراً لمعركة آشورية وإرثاً لمملكة وحضارة مترامية الحدود، جمة الخيرات، تحب السلام ولكن يطمع المحدثون بها على مر الأزمنة. وحملت تلك اللوحة وغيرها في هذا المكان من الأرض من الجزر البريطانية رغبة المدنية الحديثة وقوة التصاقها بالماضي القديم وقدرتها في اكتشاف الكنوز المخبوءة في حضارات العالم، منذ يوم أرسلت بعثاتها الآثارية.
لاستكشاف فقه الحضارات عن طريق نقل رموزها وإبداعاتها التي جسدتها قوة نحاتيها ومعمارييها في تلك الحضارات الموغلة الِقدم. كما حملت تلك الألواح للعراق تاريخا ساحرا في الثبات والقوة.. إنها الحضارة الآشورية، كواحدة من أقوى الحضارات تسلسلاً في وطني والتي حفظت للأجيال الحكمة والبراعة في الطب والفلك والسحر والهندسة، إذ مازال الناس يقدس ذكراها.
لقد أخذت تلك اللوحة الحجرية التى رسم عليها تاريخ الحضارة الآشورية، لباب عقلي وقلت في سري لا ينجز عمل كبير بلا تضحية وضحايا كما جسدتها تلك اللوحة عن واحدة من معارك الآشوريين مع أعدائهم! إنها حضارة خاضها قومي بتجربة فذة وبنجاح مثالي وأثبتوا قدرتهم في بناء آشور العظيمة! انه عملٌ يليق بالأحرار لا بالعبيد..!
غادرت المتحف البريطاني مساءً وأنا أحدث نفسي ان الامبراطور آشوربانيبال لم يعلمنا الحضارة في يوم ما لتكون مناسبة للاقتتال وتدع الغزاة يمزقون الأرض التي وحدها رافدا دجلة والفرات في بلاد سميت ما بين النهرين.. يا للخسارة،.. ما أسرع أن يحل الفساد محل المجد وينتشر الدمار على الأرض.
ويجتاحها الانحلال على أنقاض الحضارة القديمة وما أسهل من غزوة غادرة سلبت يومها متاحف العراق، لتمحو عظمة بلادي ومجدها القابض بيده على الشمس. إنهم همجٌ سراق لا قوة لهم ولا حكمة في نيل المآرب سوى خلق علاقة مبهمة بين الماضي التليد والحاضر المرير الذي تلاشى في تضاعيف التسبيب والأنانية.
سألتني محدثتي التي جلست الى جانبي في مؤتمر علمي عقد في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وهي أستاذة جامعية في علم الاجتماع من جامعة ستانفورد الأميركية، متسائلة كيف قضيت يومك البارحة في لندن؟، أجبتها: زرت المتحف البريطاني لأبحث عن آثار حضارة ما بين النهرين.. بعد أن سرقت متاحف بلادي!! صمتت تلك الأستاذة الجامعية قليلاً.. وقالت: لا تحزن على آثار وطنك إنها ستعود كلها الى حضن العراق في يوم ما..
وأرجوك ان تستمع إليّ قليلا.. أجبتها بنعم! قالت: كنت طالبة في جامعة فلورنسا الإيطالية في مطلع ستينيات القرن الماضي يوم تعرضت المدينة العريقة الى فيضان قل نظيره، ما اضطرنا نحن الطلبة بنقل مكتبة الجامعة الى الطوابق العليا خشية تلفها من المياه التي باغتت حتى جسور المدينة وان احد الجسور التاريخية التي نصب عليها تمثال شهير قد غطته مياه فيضان نهر آرنو وتسببت في غرقه وانهياره الى قاع النهر!.
انتهى الفيضان واستعادت بلدية فلورنسا ذلك التمثال ووضعته في مكانه المناسب ولكن وجدته بلا رأس! وحاولت البلدية تكراراً البحث عن رأس التمثال في قاع النهر ولم تعثر عليه. وبقي التمثال شامخاً من دون رأس لمدة ثلاثة عقود من الزمن. ففي يوم ما تسلمت بلدية فلورنسا رسالة من مواطن مفادها انه قد بلغ من العمر الثمانين عاماً وليس له حاجة برأس التمثال، راجياً تسلمه بعد ان وضعه في مكان ما بغية التقاطه! تسلمت بلدية فلورنسا حينذاك رأس التمثال المفقود وقامت بوضع الرأس على جسم التمثال باحتفال مهيب لتعيد فيه تلك المدينة الإيطالية ألقها التاريخي!
من صفوة الكلام، فقد أرادت تلك الأستاذة الجامعية أن تبلغني ان ثمة حكمة خلف عودة الآثار الى حضن مواطنها مهما طال الزمن!. مُبشرةً ان تماثيل العراق وتحفه التاريخية التي سرقت ستعود لا محالة الى متاحف البلاد في يوم ما حتى يدوم للعراق صفاؤه ويستمر هناؤه وان معركتكم هي باقية في مستقبل الحضارة لا معركة رومانسية تشغل حيزا زائفاً على جدران تاريخ لم يخلف وراءه أثراً ولا وثيقة..!!

Comment here