د.زهير الحسني: هل بامكان النظام الرئاسي انقاذ العراق من الفشل السياسي؟

يعتمد نجاح اي نظام سياسي على مخرجاته لا على مبادئه النظرية فحسب, ولعل نظام ما ينجح في دولة معينة ولكنه لايحقق نجاحا في دولة أخرى تبعا لخصائصها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد مضى 16 عاما على النظام البرلماني في العراق منذ سقوط نظام شديد المركزية والدكتاتورية بأمل أن تتيح الحريات السياسية نظاما سياسيا مستقرا يستطيع اعادة بناء العراق , ولكن النتائج كانت مخيبة للامال لان النظام البرلماني لم يكن تمثيليا للشعب العراقي بل يمثل الكتل السياسية السائدة في الساحة السياسية فلم يستجب لحاجات الشعب بل لمتطلبات تلك الكتل.
ويعتمد نجاح اي نظام سياسي على عنصرين أساسين هما : نوع النظام الانتخابي من جهة وحجم التعددية السياسية المشاركة في العملية السياسية من جهة اخرى. ولم يحقق النظام البرلماني نجاحا يذكر في العراق بسبب هذين العنصرين. ذلك لان التعددية السياسية تحولت الى كتل مكوناتية لا على أساس المواطنة بل على أساس مذهبي وعرقي، ونجم عن ذلك أن النظام الانتخابي للكتل السياسية قد كرس الانتماء المذهبي والعرقي في الحياة السياسية بحيث فقد المواطن حريته في الاقتراع على اساس المواطنة والجودة , واضطر لانتخاب مذهبه وعرقه. كما أصبح النائب يصوت للكتلة السياسية التي يمثلها وليس للشعب والوطن. ويعتبر نجاح اي نظام سياسي ديمقراطيا على درجة تمثيله للشعب.
وتوجد أربعة أنظمة دستورية للنظام الديمقراطي وهي: الاول نظام الجمعية,حيث السلطة الحقيقية بيد البرلمان والحكومة رهن إرادته ويوجد في سويسرا ، والثاني النظام البرلماني الذي يوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية حيث تتبادل السلطتان الرقابة بالنظر للفصل المرن بين السلطات. والثالث هو النظام الرئاسي حيث الفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتحول السلطة لصالح السلطة رئيس التنفيذية باعتباره الاكثر تمثيلا للشعب لانه ينتخب مباشرة من قبل الشعب بدون وساطة دائرة انتخابية او قائمة حزبية . أما الرابع فهو المختلط بين البرلماني والرئاسي ويتميز بظهور الصراع بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء والذي ينتهي هذا الصراع عادة لصالح رئيس الجمهورية. والغالب في هذه النظم الاربعة هو النظامان البرلماني والرئاسي كما نوضحه في مطلبين.

  • المطلب الاول .النظام البرلماني

اولا. يتميز النظام البرلماني بالاتي:
1. يكون الفصل بين السلطات مرنا لوجود رقابة متبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
2. تتم الرقابة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بموجب صلاحية مجلس النواب في سحب الثقة من الحكومة مقابل صلاحية الحكومة في حل البرلمان .
3. يوجد لدى السلطة التنفيذية رأسان هما رئيس الدولة بصلاحيات شرفية وبروتوكولية , ورئيس الحكومة بصلاحيات تنفيذية واسعة بحيث يكون الرئيس الفعلي للحكومة.
4. يتم اختيار رئيس الحكومة من قبل رئيس الدولة من الكتلة البرلمانية ذات الاغلبية البرلمانية الذي يختار أعضاء حكومته منها ومن ثم يعرضهم على مجلس النواب لنيل الثقة.
5. تقدم الحكومة مشاريع القوانين للحصول على موافقة مجلس النواب عليها بينما لايملك مجلس النواب سوى تقديم مقترحات القوانين الى الحكومة ليقدمها الى مجلس النواب الذي يختص بالموافقة على الموازنة العامة.
6. يصلح النظام البرلماني للدول ذات الحزبيين الرئيسين حيث يشكل حزب الاغلبية البرلمانية الحكومة بسهولة من قبله. ويتم تداول السلطة بينهما حسب نتائج الانتخابات. ولاتلعب الاحزاب الصغيرة الا أدوارا هامشية في السلطة. وبذا تستطيع الحكومة تحمل المسؤولية السياسية على عاتقها نجاحا او فشلا. اما في الدول ذات الاحزاب المتعددة, فان عدم حصول اي حزب على الاغلبية البرلمانية يحول دون تشكيل الحكومة بمفرده ويضطر الى تشكيل حكومة ائتلافية مع بعض الاحزاب صغيرة او كبيرة حسب مقتضى الحال. وغالبا مايكون الائتلاف غير مستقر بسبب تباين وجهات النظر بين مكوناته حيث يشكل الائتلاف حكومة ضعيفة يمكن المعارضة من سحب الثقة منها . ويعتبر النموذج الايطالي من اكثر النماذج البرلمانية غير المستقرة، ولذا فان عددا من الدول اتجهت نحو النظام الرئاسي وعدلت دستورها لهذا الغرض، كما هو الحال في تركيا او اتجهت نحو جعل السلطة الحقيقية لدى رئيس الدولة بدل رئيس الوزراء كما في ايران ومصر.
7. اما في العراق فان التعددية الحزبية وتشظيها جعل مهمة تشكيل الحكومة من المهام الصعبة بما في ذلك مهمة تحديد الاغلبية البرلمانية حتى آل الامر الى اللجوء الى المحكمة الاتحادية العليا لهذا الغرض.
ولم يتوقف الامر عند هذا الحدّ بل امتدت المشاكل الى توزيع المناصب الوزارية حيث تلعب المحاصصة دوراً خطيراً يحول دون اختيار فريق وزاري متجانس يمكن رئيس الحكومة من تنفيذ برنامجه الحكومي بسهولة، بل وأدت المحاصصة الى عدم تشكيل الحكومة الحالية من قبل الاغلبية البرلمانية انتهاكاً للمادة 76 من الدستور، ولم تتمكن المحاصصة من اكمال عدد أعضائها رغم مرور أكثر من سنة على تشكيل هذه الحكومة.
ثانيا. عيوبه:
8. كان واضعو دستور 2005 يأملون أن يكون النظام البرلماني اكثر تمثيلا للشعب العراقي بما يحقق آماله في بناء عراق ناهض جديد . ولكن الواقع قد سار بالاتجاه المعاكس، حيث قام هذا النظام على أساس مكوناتي يمثل الكتل المذهبية والعرقية ولم يكن قادراً على تمثيل الشعب على أساس المواطنة. وأضحى النائب ممثلاً لرئيس كتلته ويصوت بناء على توجيه منه، مما جعل رئيس الحكومة رهينة لدى روؤساء الكتل السياسية ولايستطيع ان يتخذ قراره إلا بموافقتهم. وأدت المحاصصة الى شخصنة المؤسسات الدستورية والمناصب العليا في الدولة وأضحت المصالح الحزبية متقدمة على المصلحة العامة وأضحى كل اصلاح اقتصادي متوقفاً على ارادة تلك الكتل مما أدى الى غياب الشفافية وتجميد القرارات اللازمة لتحقيق الاصلاح الاقتصادي كما حصل لحزمتي الاصلاحات لسنة 2015.
ولم تستطع الحكومات المتعاقبة من تمكين العراق من الخروج من الاقتصاد الريعي النفطي ولاتنفيذ القوانين الاربعة لسنة 2010 لدعم المنتج الوطني وتوفيرعوائد للموازنة العامة من غير عوائد النفط. ولم يتم تأهيل البنى التحتية ولا تشغيل 21 معملاً متوقفاً لحد الان ولا تأهيل شركات القطاع العام الاستراتيجية , وتوقف الانتاج الوطني الزراعي والصناعي وتحول المنتجون الى التجارة واستيراد كل شيئ بدل المنتج الوطني. وادت الاستيرادات الى تهريب العملة الصعبة التي ينبغي توطينها لانشاء مشاريع تنموية وتوفير فرص عمل للمواطنين وتحقيق الامن الغذائي والاقتصادي.
أما الموازنة العامة فاضحت موازنة بنود تشغيلية على حساب الموازنة الاستثمارية, وتشكل رواتب الموظفين أكثر من نصف تخصيصاتها ويتم انفاق ربعها على المصروفات الحكومية ويضيع الربع الاخير بحيث لم تستطع الحسابات الختامية من الافصاح عن كيفية انفاقه لعدم وجود حسابات ختامية للموازنة العامة السنوية , وان هذه الحسابات تعد بعد مضي أربع سنوات وتتم تسوية الفروقات بين التخصيصات والنفقات بشكل توافقي وفي غياب الشفافية.
والاخطر من كل هذه المخرجات السلبية للحكومات المتعاقبة، حيث ادى ضعف هيبة القانون وضعف سلطان الدولة، الى صعود لوبيات مسلحة خارج سلطة الدولة وتفاقم نفوذ العشائر والكومبرادور التجاري الذي يتحكم في الاقتصاد الوطني وهذه القوى مجتمعة تحول دون تمكين الحكومة من اتخاذ القرارات الصعبة في الاصلاح السياسي و الاقتصادي للحفاظ على الثروة وتحقيق التنمية .
وللخروج من هذا المأزق وبغية تحقيق اصلاح النظام الاقتصادي، فانه قد آن الاوان لتعديل الدستور بموجب المادة 142 لاستفتاء الشعب على النظام الرئاسي لغرض قيام حكومة وطنية تمثيلية للشعب لا للكتل تحقق الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية و تعمل على القضاء على الفساد .

  • المطلب الثاني.النظام الرئاسي

اولا. يتميز النظام الرئاسي بالخصائص الاتية:

1.يكون الفصل بين السلطات فصلاً تاماً بحيث لايمكن لرئيس الدولة حل البرلمان ولايمكن للبرلمان ان يسحب الثقة من الحكومة.
2.تتكون السلطة التنفيذية من رئيس واحد هو رئيس الجمهورية ولايوجد رئيس وزراء بجانبه , ويختار الرئيس وزراءه بنفسه وهم أقرب الى كونهم مساعدين لرئيس الجمهورية . ويكونون مسؤولين امامه مباشرة وليس امام البرلمان وغير مطلوب منهم نيل ثقة البرلمان, مما يمكن رئيس الدولة من تنفيذ سياسته الاصلاحية دون عقبات دستورية.
3.يتم انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب مباشرة وليس من قبل البرلمان ولذا فهو يتمتع بصفة تمثيلية للشعب بذات الدرجة التي يتمتع بها البرلمان. وانه يكون مسؤولا أمام الشعب لا أمام البرلمان، بل أن الدرجة التمثيلية لرئيس الجمهورية تبدو أكثر وضوحاً لان الشعب ينتخب الرئيس بصفته كرئيس على اساس المواطنة وليس بصفته ممثلاً لدائرة انتخابية أو لقائمة سياسية كما يحصل لاعضاء البرلمان، ولذا فان رئيس الجمهورية يتمتع بنفوذ سياسي وصلاحيات دستورية أقوى مما يتمتع به البرلمان، ومن هنا تأتي متانة النظام الرئاسي وتأتي قدرة الحكومة على ادارة الدولة بشكل أكثر فعالية مما في النظام البرلماني، وهذا ما يحتاجه العراق اليوم لتجاوز الوهن الذي أصاب النظام البرلماني والحكومة منذ 2003.
4.بالرغم من الفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فان البرلمان يمارس سلطات رقابية حقيقية تحد من الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية وفي مقدمتها المصادقة على المعاهدات واعلان الحرب وتعيين كبار الموظفين. ولايستطيع رئيس الجمهورية اقتراح مشاريع القوانين ولايستطيع ممارسة حق النقض على القوانين التي يتم الاتفاق عليها بأغلبية ثلثي مجلس النواب ومجلس الشيوخ كما هو الحال في الولايات المتحدة رغم اعتراض رئيس الجمهورية عليها. كما يكون رئيس الجمهورية عرضة للمحاكمة أمام مجلس الشيوخ بالخيانة او عدم الكفاءة كما حصل للرئيس نيكسون والرئيس كلنتون.

ثانياً.عيوبه:

يخشى في النظام الرئاسي تحوله الى نظام دكتاتوري بسبب صلاحيات الرئيس الواسعة ونفوذه السياسي. وهذا الاعتراض غير تام، ذلك لان الرئيس مقيد بدورة انتخابية أمدها أربع سنوات تنتهي عندما تبدو ملامح الفشل و الاستبداد في سلوكه. اما اذا حقق نجاحات سياسية فانه سيفوز بدورة ثانية ولأربع سنوات فقط غير قابلة للتمديد , وبالتالي فان الخوف من الدكتاتورية هو خوف قائم على حكم مسبق وعلى فوبيا الخوف من شبح النظام السابق، وبالمقابل, فأن عدداً من الدول تحولت من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي بعد إخفاق البرلمان في اقامة نظام سياسي مستقر، وهو ما يعانيه للعراق بعد انقضاء 16 سنة بسبب المحاصصة وضعف الحكومة والفساد وهدر المال العام وتردي الخدمات وخاصة في التعليم والصحة والغذاء والسكن والبيئة وفشل الخطط التنموية لوزارة التخطيط , مما حال دون تمكين العراق من تحقيق واحد من 17 مبدأ من مبادئ التنمية المستدامة للامم المتحدة المطلوبة لعام 2030 .
المحصلة
لم تفلح الحكومات المتعاقبة من تحقيق اصلاحات في النظام البرلماني بعد انصرام 16 عاما من الاخفاقات السياسية والاقتصادية .ولم تستطع هذه الحكومات من تسخير العوائد النفطية الضخمة التي حصل عليها العراق وخاصة عندما وصل سعر برميل النفط قرابة 110 دولارا في اليوم الواحد. وتدهور التعليم والخدمات الصحية كما تدهور وضع السكن حيث يحتاج العراق الى 3 ملايين وحدة سكنية لتوفير العيش الكريم لشعب لم يستفد من ثروته الطبيعية. ويبدو ان اخفاق مساعي الاصلاح لا تعود لعدم وجود مصلحين وانما لعدم قدرة النظام البرلماني على اصلاح ذاته لانه تحول الى نظام لتوزيع المغانم لا لاقامة دولة عصرية على اساس المواطنة وعلى حب الوطن . وبدلا من تضييع مزيد من الوقت في اصلاح هذا النظام غير قابل للاصلاح لان فاقد الشيء لا يعطيه , فان العمل على تعديل الدستور نحو نظام رئاسي ديمقراطي من شانه انقاذ العراق مما وصل اليه حاله وذلك بالاستفادة من تجارب الدول التي تحولت اليه بعد فشل النظام البرلماني فيها. ولا يليق بالعراق ان يصل الى مرتبة دنيا لدى منظمة الشفافية الدولية بلغت درجة رقم 176 الى جانب الصومال وافغانستان وليبيا وافريقيا الوسطي والكونغو. ان وجود حكومة قوية متجانسة اكثر تمثيلية للشعب من شانه ان يتيح الفرصة للاصلاح واعادة البناء بما يساعد على تحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم لشعب عريق في حضارته ومبدع في افكاره وبما يخلصه من حالة الاحباط والياس لدى الشعب احباطا وياسا يوديان الى ما لا يحمد عقباه.
د. زهير الحسني
استاذ في جامعة البيان
عضو هيئة امناء المعهد العراقي للاصلاح الاقتصادي

Comment here