نوفمبر 26, 20200
الازمة المالية وتداعياتها على الاقتصاد العراقي
تبحث الدراسة في الازمة المالية العالمية، وتحاول تفسيرها تفسيرا علميا اقتصاديا. ورغم ان الاقتصاد الدولي مترابط، الا ان الاقتصاد العراقي في منأى من العصف والطوفان، ولكن يبقى تحت طائلة التأثير غير المباشر. وتناقش الدراسة الاثار المحتملة على العوائد النفطية وانعكاساتها على خطة الاستثمار والايفاء بالاتزامات التجارية. وتدعو الى الاسراع في تطوير العلاقات الاقتصادية الاستثمارية مع الدول التي تتمتع بالسيولة النقدية (كالدول الخليجية).
اولا: الازمة المالية العالمية:
ان الازمة المالية العالمية السائد هي ازمة سوء ادارة مالية ناجمة من النزعة الى توسيع رقعة الاسواق المالية. اذ لم يكن التوسع ضمن الضوابط المنطقية مع الاخذ بنظر الاعتبار الاثار المترتبة على انعكاسات قانون تناقص الغلة. الذي حصل هو التغافل والسعي وراء الاهداف قصيرة الامد والتمادي في تقديم القروض (حتى للفئات ذات الخطورة في استرجاع قيمة القرض) . ان توفر السيولة النقدية في العالم الغربي ادى الى زيادة الطلب على العقارات ومن ثم ارتفاع اسعارها والاسعار الاخرى. ولغرض ضبط السياسة النقدية والحد من ظاهرة التضخم، اجرت البنوك المركزية رفع لسعر الفائدة، الامر الذي ادى الى خسائر اقتصادية جسيمة. المعروض للسادة القراء مختصر لدراسة لازالت تحت الاعداد عن الازمة المالية اذ لم تتوفر للباحث الاحصاءات الكافية.
انها مشكلة في غاية التعقيد، ولكي نستطيع ان نقربها للقارئ الكريم، سأستعين بالمثال الافتراضي التالي:
لنتصور العالم كقرية زراعية تتألف من مزارعين، الذين يعيشون عيشة بسيطة، كانون قد اشتروا بيوتهم بالاستعانة بالمصرف المحلي. والمصرف اساسا يعتمد على جمع مدخرات المستثمرين المحلين. ولما كانت القروض العقارية مربحة وتكاد خالية من الخطورة النسبية، شاءت سياسة المصرف التوسع في سياسة تقديم القروض. كان لتوفر السيولة النقدية ان زاد التداول وشراء العقارات، الامر اذي نجم عنه ارتفاع بالاسعار بما فيها اسعار العقارات. الحدث الذي شجع الفلاحين الذين سبق ان اشتروا عقارات في الفترة السابقة، ان يقبلوا على الحصول على قروض اضافية تتناسب مع الزيادة في سعر عقاراتهم. واستخدموا هذه القروض الاضافية في شراء اثاث افضل، ايضا السعي الى زيادة الانتاج الزراعي (في الاراضي التي هي اقل خصبا من الارض التي كانوا يستغلوها سابقا). هذا التوسع ادى الى استدعى الى انشاء معمل لصناعة الاسمدة ومعمل اخر لتصنيع الاغذية بتمويل مصرفي. هذه الزيادة في القرض سببت دفع اقساط شهرية مرهقة للفلاحين.
كما ادى التوسع الزراعي الى تجاوز المستوى الامثل مما ادى الى زيادة قيمة الانتاج بنسبة اقل من نسبة زيادة كلفة مدخلات الانتاج . اي ان الكلفة الحدية للانتاج اصبحت اعلى من الفائدة الحدية للانتاج ( قانون تناقص الغلة).
من جانب اخر ان المصرف المحلي هو الاخر تجاوز الضوابط المتعلقة بالمدى المرغوب به في تقديم القروض. ان المصرف عادة ووفق اساليب فنية يصنف افراد المجتمع الى: ذوي خطورة، وخطورة متوسطة، وذوي خطورة قليلة. الذي حصل تم شمول نسبة كبيرة من الافراد الذين هم خارج مساحة ذوي الخطورة القليلة بالقروض. وبغية السيطرة على الاسعار، تم تبني سياسة رفع سعر الفائدة. اذ ان هذا الاجراء كفيل بكسب السيولة النقدية وتجميع المدخرات. ومن الجدير بالذكر ان المصرف بغية تشجيع الاقبال على القروض، يلجئ المصرف ابتداءا عرض سعر فائدة اقل ثم يعمد بعد حين على رفعها. الا ان هذا القرار كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير:
•1) على الفور واجه اصحاب القروض حرج بدفع الاقساط الشهرية، اذ تجاوزت امكانياتهم المالية. الامر الذي حصل (وفق العقد المبرم بين المصرف والمقترض) ان قام المصرف بأجبار المقترض الى اخلاء العقار وقيام المصرف ببيعه لاسترداد قيمة القرض. وهذا ما حصل لعدد من العقارات، وبذلك انهارت اسعار العقارات.
•2) ان الدفعات الشهرية كانت بمثابة الارباح الضرورية التي يدفعها المصرف للمستثمرين في المصرف. ان عدم توفر هذه الدفعات اجبر المصرف على اعلانه عن الافلاس، وتسريح العاملين عن العمل.
•3) وازاء موجة البطالة وارتفاع تكاليف الانتاج واجه مصنع الاسمدة حالة ضعف في الطلب، ومن ثم عجزه عن تسديد تكاليف الانتاج بضمنها اقساط القروض المصرفية. الامر الذي نجم عنه توقف المصانع وتسريح العاملين
•4) ان المستثمرين في المصرف وفي معمل الاسمدة ومصنع الاغذية، كانوا قد ان اشتروا من شركة التامين حماية على اموالهم وفق دفعات شهرية. الا ان انهيار سوق العقار وعجز المصرف عن الايفاء بعقده مع هؤلاء المستثمرين، اجبرهم على المطالبة بحقوقهم المالية من شركة التأمين. عند تلك الحظة وجدت شركة التأمين نفسها عاجزة عن مواجهة حجم الاموال المطلوبة، اذ ان اموالها ايضا مستثمرة في اصول صعبة الاسترداد حالا، وليست هناك مصرف يساعدها على مواجه الامر. فاعلنت افلاسها هي الاخرى وسرحت عامليها.
•5) اما اصحاب النقد بدأوا يخافون على نقدهم من اي عملية استثمارية، وتجسد ذلك بتتشدد المصرف في تقديم القروض بما في ضمنها القروض العقارية
الحل يكمن بان يدرك الجميع بانهم خسروا بدرجات مختلفة (وسيخسرون اكثر). وان الحل يتطلب ايقاف النزيف حالا، اذ ان التأخر يزيد من المشكلة، ولا بد اولا من اعانة الجسم على تطوير المناعة لأتلام الجرح ، وثانيا العمل على ضخ دم اضافي جديد. وهنا لابد من زعماء القرية ان يتدخلوا، باقناع اهل القرية بتحمل الخسارة والعمل جميعا على تحشيد الامكانات الضرورية وخلق السيولة الضرورية لاعادة عمل المصرف للقيام بدوره الاقتصادي وخلق اجواء الثقة المالية المفقودة لعودة المستثمرين لاستثمار اموالهم في المصرف. وان يتحمل المصرف جزء من الخسارة ويقبل بممارسة العمل بدعم من الدولة، وهكذا شركة التأمين. ان الذي استطاعو استرداد اموالهم المؤمنة سرعان ما ينتابهم الخطر اذا لم يقبلوا بتشجيع الدولة لاعادة ضخها واستثمارها في في المصرف (بضمان زعامة القرية).
ثانيا: التحليل الاقتصادي للمشكلة:
بسبب الندرة الاقتصادية للموارد فان علم الاقتصاد يدعوا الى تحديد اولويات الانفاق. ففي مجال قطاع الخدمات المالية تقوم المصارف وفق اساليب فنية بترتيب وتصنيف المشاريع والافراد الى : ذات خطورة اقل (A) ، ومتوسط الخطورة (B)، وعالي الخطورة (C) . ويجري عادة استبعاد المعاملات المالية المتعلقة بالمجموعة الاخيرة (C) ، اما المجموعة الثانية (B) فيجري دراستها على انفراد ومن ثم يحدد موقف منها ، اما المجموعة الاولى (A) فعادة يجري التعامل معها دون تردد.
الذي حصل ان تمادت سياسة المصارف في الاقراض اذ شملت نسبة من ذوي الخطورة، الامر الذي ترتب عليه نمو الخسائر والتكاليف وتجاوزت المنافع والعوائد المتوقعة. :
التحليل الاقتصادي اعلاه يشير، الى اهمية اعادة التوازن وضبط التعاملات وفق المعايير الاقتصادية (الابتعاد عن سياسة الافراط والتفريط). وان تدخل الدولة واجب لظمان الالتزام بالتعليمات. ان الازمة تتطلب قيام الدولة بالدور الضامن المشجع لاصحاب المال بالعودة لاستثمار الارصدة المالية، وايداع رصيد مالي مجزي لدى المؤسسات المالية والدعوة الى خفض سعر الفائدة.
في سبيل مواجهة الازمة، دعت الدول الصناعية السبعة في اجتماع يوم 11 اكتوبر 2008 في واشنطن الى دعوة دول العالم الى خفض سعر الفائدة، ومطالبة الدول المنتجة للنفط بزيادة الانتاج. وقد سبق للولايات المتحدة أن قدمت 700 $ مليار وبريطانيا بحدود 100 $ مليار لغرض زيادة السيولة النقدية. ان منهج العولمة السائد يتطلب العمل الجماعي وفق اتفاق دولي لحل الازمة اذا لا أحد منا في منأى تماما عن تأثيراتها وحتى الدول الفقيرة سوف تكون متأثرة بها بسب تـأثر برامج الدعم والمعونة .
ثالثا: الازمة وتداعياتها على الاقتصاد العراقي
ان طبيعة الاقتصاد العراقي تجعله اقل تضررا من غيره من الاقتصاديات، اذا ان العلاقات الاقتصادية المالية/ المصرفي لازالت بدائية وان كثير من التعاقدات والتعاملات لا تعتمد على السيولة النقدية المصرفية ( بل في واقع الحال تتمتع المصارف بسيولة). على سبيل المثال نسبة قليلة من المواطنين تلجئ للمصارف لاستكمال عملية الشراء العقارات، كما ان القطاع الخاص يحجم عن التعامل المصرفي بسب ارتفاع سعر الفائدة، وان الجزء الاكبر من النشاط الاقتصادي هو قطاع عام يمول من موازنة الدولة. مع ذلك يتأثر الاقتصاد العراقي بالازمة من خلال الجوانب التالية:
•1) الايرادات الحكومية
تشكل الايرادات النفطية بحدود 90% من ايرادات الدولة، وان اي انحفاض يؤدي الى تعثر جهود اعادة الاعمار. واليكم الاحتمالات المتوقعة التالية:
•أ. بسب حالة الكساد التي سوف يشهدها العالم، يتوقع انحسار الطلب على النفط الخام، وان هذا الانحسار سوف لا يقتصر على دول العالم الصناعية التقليدية بل يشمل حتى الصين الهند. وتدرس الان دول الاوبك مسأله الحفاظ على سعر النفط من خلال خفض الانتاج. الا ان العراق بسب سنوات الحصار التي مر بها وأستئثار الدول المنتجة بحصته في الفترة السابقة ، يستدعي الامر دخول العراق بتفاوض مع دول الاوبك حول ضرورة استمرار زيادة الصادرات العراقية او على الاقل الابقاء على الحد الادنى 1.9 مليون برميل باليوم الواحد.
•ب. اما الاسعار فيتوقع هبوطها، ونشاهد الان هبوط الاسعار بعد ان تجاوزت هذا العام 100 $ للبرميل لتصل الان بحددود الان الى 80$. من المتوقع ان يهبط السعر الى 55 – 65 $. وعليه من المتوقع ان تكون الايرادات بين 37 – 44 $ مليار. ان النقص في الايرادات يشكل تحديا اكيدا لتعثر جهود وتيرة الاعمار.
ان انخفاض الايرادات سوف يعني اعادة ترتيب اولويات الانفاق بخفض التخصيصات المالية التي تم التأكيد عليها.
•2) التجارة الخارجية
تتمحور العلاقات الاقتصادية الخارجية على تصدير النفط الخام (بسب ظمور صادرات القطاعات الاخرى). والمتفحص لطبيعة الترابط بين القطاعات الاقتصادية من خلال تفحص المعاملات الفنية لجدول المدخلات والمخرجات لعام 1981 (وهو من دون شك يمثل حالة متقدمة للوضع الحالي)، نجد نمطاً ضعيفا للتشابك بين القطاعات. هذا يعني أن النسيج الهيكلي الذي يجمع بين هذه الأنشطة والقطاعات يتميز بكثرة فجواته. بسب الوضع الاقتصادي الموروث، يكاد يستورد العراق باكثر من 90% من احتياجاته الاستهلاكية، وبنسبة اكبر احتياجاته الاستثمارية. وبسب حالة التضخم المتصاعدة في العالم الصناعي، فان قدرة الاقتصاد العراقي لاستيراد كل احتياجاته الاستيرادية ستواجه تحديات وصعوبات جمة.
3) الاستثمار الخارجية: تشكل مشكلة ضعف السيولة النقدية عقبة، اذ يصعب على المؤسسات المالية توفير النفقات المصاحبة للاستثمارات الأجنبية. ولهذا يتوقع ان تتلكأ مساعي الاستثمار الخارجي بالعراق. الامر الذي يتطلب التوجه الى دول محددة كالدول المنتجة للنفط او الدول الخليجية وتشجيعها على ملء الفجوة الاستثمارية. ان العمل بهذا الاتجاه مطلوب بكل الاحوال. ان مساعي تشجيع الاستثمارات الاجنبية لن تتحق اذا تتحسن البنى التحتية المتمثلة بتسهيل الاجراء الحكومية والتسهيلات المصرفية … الخ. من جانب اخر، فالكساد والاختناق الاقتصادي اذا ما حصل، فان العراق قد يكون متنفسا له. وقد يتاح للعراق الحصول على افضل العطاءات.
Comment here