يوليو 16, 20200
د.مظهر صالح: ١٤ تموز الثورة وبناء الموديل الاقتصادي البديل/الجزء٢
في مبنى وزارة الدفاع عقد مجلس وزراء الثورة اجتماعه الاول برئاسة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم الذي نُصب رئيسا للوزراء يوم ذاك .حيث التئم الجناح الوزاري المدني بالجناح العسكري الذي لازم تراتبيته بشدة امام القوى المدنية الوطنية التي شغلت مناصب وزارية كقوى جماهرية محركة للثورة وغطاء ديمومتها الفاعل
.حدثني استاذي الجليل المفكر الراحل ابراهيم كبة عن بعض اسرار اجتماع اليوم الاول الذي شغل الراحل فيه منصب وزير الاقتصاد ليمثل يومها الجماهير الكادحة صانعة تاريخ الثورة وخالقة الحضارة العراقية وقاعدة الديمقراطية الحقة والمنفذة لسنن المجتمع وبانية عالم الغد في ارض عالمها الحرية والسلام في بلاد ما بين النهرين قائلاً: ان التيار القومي قد دخل مجلس الوزراء بجناحيه العسكري والمدني وهو يحمل بذور المعارضة والانقسام تحت تاثير الموجة الناصرية العامة وقت ذاك.وكانت البداية السالبة لتشتعل الساحة السياسية بصراع ادى في نهايته الى غدر الثورة وطعنها من ظهرها ذلك منذُ انسحاب التيار القومي في الاسابيع القليلة من اجتماعات مجلس الوزراء وعموم العمل الوطني المشترك.الا ان الثورة وديمومة نظالها منذ اليوم الاول تطلب اعتماد جدول اعمال ينصرف الى التصدي لقضايا اساسية ثلاث:اولهما ،مكافحة الفساد وثانيهما ،اشاعة الخدمات والمنافع العامة ونشرهما بين صفوف الفقراء والطبقات المسحوقة وثالثهما، البحث عن انموذج بديل للتنمية يسهم في تنويع الاقتصاد الوطني والتخفيف من ظاهرتي الفقر والبطالة . ولم تمض الا ايام قليلة و بدأ التطبيق الفعلي لمكافحة الفساد وباتجاهين اولهما تنفيذ قانون تطهير جهاز موظفي الدولة من المرتشين اوممن اثرى على حساب المال العام والاخر هو اشاعة المساءلة المالية لتطال الموظفين الحكوميين كافة تحت ميدأ:من اين لك هذا؟ يوم كشف اولئك الموظفين الحكوميين مصالحهم وذممهم المالية كافة امام الجهات المختصة.
فبعد اشهر قليلة من انبثاق ثورة تموز 1958اخذ الزعيم عبد الكريم قاسم مصطحباً في سيارته رئيس مجلس النواب الياباني الذي زار يوم ذاك العراق رسمياً وهو يحمل في جعبته سؤالاً واحد هو: لماذا قمتم بثورة 14 تموز 1958 ؟ وهو السؤال الذي فاجأ فيه الضيف الياباني الزائر الزعيم قاسم اثناء تسلقهما ادراج مبنى وزارة الدفاع .فما كان من الزعيم الا ان طلب من الضيف الياباني ان يجلس الى جانبه في تلك الحافلة (الخاكية اللون )وتوجها سوية الى منطقة (خلف السدة )في جانب الرصافة من شرق بغداد يوم كانت تعج بعشرات الالاف من الاكواخ تناظرها منطقة اخرى اكثر سوءاً في جانب الكرخ تسمى ( الشاكرية )حيث تنعدم فيها هي الاخرى ابسط متطلبات الحياة الانسانية وتزدحم بالالاف المؤلفة من سكان العراق من اصول فلاحية اتوا غالبيتهم هرباً من قبضة الاقطاع وظلمه من مناطق جنوب شرق العراق.وعلى ارغم من ذلك حملت الجماهير الفقيرة سيارة الزعيم عبد الكريم قاسم وظيفه الياباني على الاكتاف وهي تهتف بحياة الثورة وزعيمها.التفت الضيف الياباني الى الزعيم قاسم وسئله من هم هؤلاء اجابه انهم فقراء الشعب العراق الذين جاءت الثورة من اجلهم .ومن هنا فهم الضيف الرسمي الياباني رسالة ثورة تموزو كيف ستنطلق حكومة 14 تموز ببرنامجها الوطني الشامل في مكافحة الفقر وكيف ستنهض بهوامش المدن وعشوائياتها وتحويلها الى نواة مدنية خالية من الظلم والتخلف والتهميش الاقتصادي والاجتماعي وجعل اولئك الفقراء كقوة حضرية منتجة مندمجة بمجتمع المدنية .اذ اُطلق يومها مشروع بناء مدينتي الثورة/الصدر في جانب الرصافة والشعلة في جانب الكرخ واشاعة الحركة الاسكانية وتشييد البنى التحتية في العاصمة بغداد و عموم العراق. لم يستطع الانموذج القياسي الملكي للتنمية الذي تبناه مجلس الاعمار في فلسفته الانمائية ان يخلص العراق من تكاثر ونمو العقدة الريعية التي تعاظمت منذ اتفاقية تقسيم عوائد النفط في العام 1952 مناصفة بين شركات النفط الاحتكارية والحكومة الملكية للعراق.فالانموذج القياسي او النمطي للتنمية الذي استخدمته الملكية لدفع عجلة التنمية وتمويل لوازمها بعوائد النفط العالية جاءت بالتركيز على الاستثمار الواسع في البنية التحتية الزراعية لمشاريع تطوير وارواء الاقطاعيات وتحولها نحو استخدام التكنولوجيا الزراعية الكثيفة في رقع جغرافية كثيفة السكان لتتسع حينها رقعة البطالة في قوة العمل الريفية مع اتساع الزراعة الراسمالية في نظام بات شبه اقطاعي مزيج بالراسمالية الزراعية. وعلى الرغم من اهمية التحول التقني الزراعي الا انها قادت اجتماعياً الى تحرير مئات الالوف من العائلات الزراعية وقواها الفلاحية الكادحة من قبضة الاقطاع وادت ايضاً الى التسريع في التحول التكنولوجي في الزراعة التي اخذ طابعاً شبه راسمالياً هذه المرة ، ليقابله قطاع نفطي كثيف التكنولوجيا محدود جداً في استخدام العمل الفائض ومهيمناً في الوقت نفسه على الناتج المحلي الاجمالي من دون تنوع تكنولوجي في الصناعة التحويليةوخلق برولتاريا عمالية واسعة ،ما اسهمت في تضييق درجة التنوع الاقتصادي وتعظيم القوة العاملة الهامشية حول المدن في اقتصاد ضعيف في توفير دواليب الصناعة ومنتج للبطالة في الوقت نفسه.
فقطاع الانتاج النفطي العالي التكنولوجيا في مجال الاستخراج كان بمثابة البديل التلقائي للنهوض في القطاع التكنولوجي ولكنه احادي ملازم لالغاء اهمية توليد الصناعة التحويلية .اذ اصطدم عرض العمل غير المحدود المتدفق بكثافة من الارياف قليل الخبرة والتعليم ( وهو يبحث عن هامش من الريع النفطي بعد ان فقد سكان الارياف هامش ريعهم الزراعي الضئيل من نظام الاقطاع الزراعي) ليتولوا الهجرة والعيش في هوامش عشوائية حول المدن الكبيرة . اذ تمركز المهاجرون او النازحون الجدد بالالاف كتجمعات بشرية وهم يبحثون عن هوية اقتصادية جديدة ريعية للعمل مدعمة بنفقات عوائد النفط التي اخذت تسربها الموازنات الحكومية لدعم وسيلة عيشها وتجسدها اضطراراُ تقديم اعمال يدوية هامشية وفي حركة هجرة صعودية ومسلسل نزوح قوامه مغادرة الالاف باستمرار لارياف جنوب ووسط العراق صعوداً الى اعالي الانهر والبحث عن هوية عمالية هامشية جديدة وبتدفق انساني سار على عكس جريان رافدي دجلة والفرات.وهكذا اصطدم عرض العمل الفلاحي المهاجر الهارب غير المحدود صوب هوامش المدن وعشوائياتها تاركاً خلفه قوى شبه اقطاعية اتسمت بالتحول البطيء نحو تشييد اطر بدائية من الراسمالية الزراعية ،ما جعلت من الطبقة العاملة الجديدة المتمركزة في هوامش المدن بمثابة فائض عمل شديد الخطورة واداة للتغيير الاقتصادي والسياسي المقبل للبلاد .فكانت النتيجة النهائية هي تردي مستوى المعيشة بسبب تردي الانتاجية بين شكلين من القطاعات الاقتصادية احدهما، قطاعات منتجة مولدة للدخل شديدة الحداثة التكنولوجية في قطاع الاستخراج النفطي والاخرى، هي القطاعات التقليدية الخدمية الواطئة التكنولوجية ضعيفة القيمة المضافة والقليلة الاجر والدخل واختلافهما الشديد وتباينها في توليد التراكم الراسمالي الذاتي .ما ولدت تدهوراً في مسارات النمو الاقتصادي ومالازمها من تدهورفي فرص العيش.فالقوة العمالية الجديدة المهمشة حول المدن وحراكها الاجتماعي من جانب واشتداد التركز الراسمالي الزراعي بميوله الشبه الاقطاعية من جانب اخر قادا بلاشك وباتجاهين مختلفين في التعجيل في ثورة 1958، وتمكين الطبقة الوسطى المدنية والعسكرية المنظمة سياسياً بقوتها الذاتية والموضوعية وزخم فعلها المؤثر كمادة دافعة للتعجيل في انهيار النظام الاجتماعي السياسي الذي آزره في الوقت نفسه انهيار متسارع في متلازمة المنظومة الاقتصادية الزراعية الملكية(شبه الراسمالية – شبه الاقطاعية) والتجارية الكمبرادورية ذات الجذور الريعية الهشة.
حدثني المفكر الراحل ابراهيم كبة وزير الاقتصاد للجمهورية الاولى يوم انبثاقها ان مشكلة البطالة والخيار التكنولوجي الصناعي كانت من اولى ركائز البرنامج الاقتصادي لثورة تموز منذ الاجتماع الاول.اذ ادركت قيادة الثورة ان تبنى انموذج الدفعة القوية في التنمية و تولي اشاعة النمو المتوازن في مفاصل الاقتصاد كافة.ما يعني ان السير بالاستثمارات بحزم متعاقبة صغيرة لا يوصل الاقتصاد الوطني الى مرحلة الانطلاق وبلوغ النموالذاتي المستدام ويؤدي الى ضياع الموارد الاستثمارية.وقد آزرت قيادة ثورة تموز فكرة ان الناتج الحدي الاجتماعي للاستثمار لمجموعة النشاطات الصناعية يحق معدل نمو في الاقتصاد يفوق الناتج الحدي الفردي.وهنا بدأ دور الدولة في تعظيم البنية التحتية الكلية كونها المقدمة الاساسية لتحريك النشاط الانتاجي الصناعي المؤسس لتنويع الاقتصاد ورفع كفايته.فالنمو في البنية التحتية بمقدار واحد في المئة سنوياُ يؤدي الى نمو في الناتج المحلي الاجمالي بمقدار واحد ونصف بالمئة سنوباً .وهنا تصبح المشاريع رابحة جميعاً ليس بمعنى الربح الفردي وانما بمعنى الربح الاجتماعبي بسبب اثر العامل الخارجي الموجب في رفع كفاية الانتاج الذي هنا يولده الاستثمار في البنية التحتية او مايسمى براس المال الاجتماعي العلوي.وفي اطار السير ببرنامج الدفعة القوية لثورة 14 تموز 1958 تبنت قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم برنامجاً مكثفاُ في الاستثمار في مجال كهربة العراق والاستثمار في الصناعة التحويلية وتوليد قطاع عام صناعي متقدم للتغلب على عقبات التنمية وامتصاص البطالة والنمو في قوة العمل الصناعية واشاعة الرفاهية بتحسين دخل الفرد السنوي. وهكذا خلص الاجتماع الاول لوزارة الجمهورية الاولى بعد ان تبنت برنامج وزير الاقتصاد المفكر ابراهيم كبة والسير فوراً في تطبيق برنامج الدفعة القوية القائم على تكثيف الاستثمارات وعلى وفق مسار النمو الذاتي وهو مسارباتجاه التوازن كما ذكرنا تتلازم فيه المدخرات والطلب والانتاج في اطار تبادلي معتمد عالي الكفاءة غير قابل للتجزئة ومُعظم في الوقت نفسه للوفورات الخارجية التي تقلل من متوسط كلفة الانتاج مابين الصناعات.فكانت بداية الانطلاق بالقرض الصناعي الميسر الذي قدمه الاتحاد السوفياتي السابق والذي زاد على 150 مليون دولار لاقامة مايزيد على 70 منشاءة صناعية منتجة امتدت بين صناعة الاقطان والنسيج وانتهت بصناعة المعدات الميكانيكية والكهربائية لتُشكل دالة الانتاج الصناعي الحكومي وولادة الجيل الجديد من البرولتاريا العمالية الصناعية العراقية داخل الكيان المصنعي الحكومي .بهذا عبر انموذج الدفعة الصناعية القوية للوزير والمفكرالراحل ابراهيم كبة القدرة على تحريك الاقتصاد الوطني بدواليب تكنولوجية مؤثرة في تجاوز معظلة التكنولوجيا الثنائية الكثيفة في القطاع النفطي والزراعي كما كان عليه الانموذج القياسي الملكي للتنمية ،ذلك لاحداث توازن في قضيتي رفع مستوى المعيشة والتشغيل الدائم لعرض العمل غير المحدود الذي ظل الريف يدفع به من حين لاخر. وهنا امسى التراكم الراسمالي في الصناعة التحويلية رديفاً للتكنولوجيا وتنوع قطاعات استخداماتها التي استطاعت ان تتفادى قضية التكنولوجيا الثنائية للموديل القياسي الملكي القاصر (بين النفط والزراعة) لتتبنى الموديل التكنولوجي الثلاثي وهو النفط والزراعة والصناعة وهو انموذج التوازن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجمهورية الاولى.ومن دون ان ننسى قانوني الارض ومصادرة ريعهما لمصلحة الشعب العراقي وهما القانون رقم80 لسنة 1961 قانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط وهو القانون الذي امم اراضي الاستثمار النفطي وسحبها كلياً من ايدي شركات النفط الاحتكارية الاجنبية باستثناء دائرة عملياتها .كما سبقه تشريع قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 المعدل و الذي امم هو الاخرالملكيات الكبيرة وفتتها لمصلحة فقراء الريف وفلاحيه ووضع حد للسلطة المستبدة لشبه الاقطاع.
Comment here