أبريل 4, 20210
الاشكالية والنقد في الفكر العراقي المعاصر
الاشكالية والنقد في الفكر العراقي المعاصر
د.مظهر محمد صالح
بين الظاهرة النقدية التي ينصرف فيها الناقد الى ممارسة الاحكام على جدارة الاشياء او نكوصها حتى يصبح النقد عملية تقييم او تصحيح والتي يمكن ان تحصل على اي نطاق في حياتنا البشرية، وبين التصدي الى الإشكالية بمعناها المدرسي الواسع بكونها المصفوفة او الزاوية التي من خلالها يصبح من الممكن والضروري صياغة عدد معين من القضايا والمشكلات الدقيقة او المحددة .ويشهد الفضاء الثقافي العراقي في ايامنا هذه تزاحماً فكريا بين ثلاثة من مفكري العراق تناولوا قضايا الانسان والمجتمع العراقي في ظروف انتقالية فكرية واجتماعية وسياسية بالغة الدقة عبر عنها الدكتور مزهر الخفاجي بخاطرة عنوانها:كيمياء الحرية والوطن.كما تناول الكاتب ابراهيم العبادي هو الاخر بعمود فكري لاهب عنوانه:المثقف العراقي بين الحزبية والوطن .واخيرا تصدى الكاتب حسين العادلي في رائعته التي اخذت عنواناً مختلفا : الإمَّعَات…!!
ونجد ان الكتاب الثلاثة تناولوا الاشكالية والنقد في المناخ السياسي والاجتماعي العراقي الراهن سواء بشكل مباشر او غير مباشر وقد ارتقوا حقا في الخوض في غمار العقل النقدي العراقي .فالكثير من الكتابات النقدية اليوم لا نستطيع ان نسميها نقداً لانها خالية من الاشكاليات. اذ لايكفي ان تنتج المقاييس مالم توجد هناك اشكاليات حقيقية للمعالجة يتم في ضوئها تبادل عمليات الشرح والاقناع كوظائف مطلوبة في النقد. فالاشكالية كما عبر عنها الكاتب المصري محمد العجمي في كتابه : داخل العقل النقدي، هي نتاج متقدم ومتراكم للفكر النافي.فهي صياغة شكية تتجاوز المصادرات و اليقينيات لتتيح فرص اكبر ومستمرة للتعاطي مع العلاقات المتشابكة داخلها.اي بكونها مسألة لم تحل بعد ،فهي تقبل الاثبات او النفي . وتظل تثير القلق الداخلي باستمرار وتعبر عن البحث الدؤوب والسعي غير المنقطع وراء الحقيقة.فالنقد مفتاح صنع الذات الجديدة .والنقد بماهو الجسر بين (الذات) و (الموضوع) فهو يوحد حقا بين المسألتين آنفاً في الوقت نفسه مقللاً بذلك من غلواء هذه الثنائية (الذات والموضوع) و إستأسادها على الانسان.
فبين الذات والموضوع انصرف المفكرون الثلاثة الى مشكلات الاجتماع السياسي في العراق .اذ استخلص الدكتور مزهر الخفاجي في خاطرته التي اخذت عنواناً مفاده:كيمياء الحرب والوطن، قائلاً:بان ضبط المفاهيم والاتفاق عليها مجتمعياً وسياسيًا وثقافيًا لهو الكفيل في ضبط كيمياء الحرية والوطن …فلا تفريط بالوطن ولا إفراط بالحرية … لانهما اكسير العراق والعراقيين …وهما ناموس هويته الحضارية والتميمية التي حصنته طوال الدهور وستبقى كذلك.
لقد خط المفكر مزهر الخفاجي في رائعته ضبط آصرة الكيمياء الاجتماعية بين العدد الذري للحرية ومكافاته بالعدد الذري الموفر للسلم حتى تبلغ المجتمعات توازنها القيمي المنشود والذي اسماه حقاً (كيمياء المجتمع ) واجد فيها من جانبي النقطة المثلى للسعادة . فقد تطورت المجتمعات الانسانية الحديثة لبلوغ هذه المعادلة بعد سنوات طويلة من الفكر الجدلي التاريخي حتى اخذ العقد الاجتماعي مداه وامتدت المؤسسات لتؤدي دورها المؤازر لفكرة السلطة التي هي اداة الدولة الحديثة في صيانة الحريات المقرونة بالحقوق وصيانة السلم المقترن بدور انفاذ القانون ،وهما مكونين اساسيين تشتق منهما فكرة (السعادة). فبين توازن الحريات وتوازن مبادي السلم تبلغ المجتمعات سعادتها . اما المفكر ابراهيم العبادي الذي تصدى بالتزامن وبقوة حجته ومنطقه بعمود لاهب عنوانه:المثقف العراقي بين الحزبية والوطنية ،قائلاً: فاذا فكرت بعقلك ولم تردد المقولات الشائعة فانت ربيب مؤامرة وسهم المشروع الناعم المضاد، فاي دور ياترى لمثقف يخشى على نفسه الحصار والاغتيال الرمزي وهيجان جنون حراس المعابد الايديولوجية والمشاريع الحزبية..؟؟ فبهذا الجمال الفكري وعمق المنطق وقوة القلم في تحليل مصفوفة قيود الفكر باعمدتها وصفوفها التي ينبغي على المثقف ان يتحرر من تقاطعاتها دون ان تقضمه انياب معتقدية قاطعة او السن ايديولوجية لاذعة من قطعان ذئاب الفكر وهي تتنازع على فتات وتحيزات من ارث نصوص او طيف فاقع عديم الجمال.
هكذا فَقَد المثقفون ديناميات التفكير واصبحوا نقاط منعزلة في زوايا استاتيكية داخل زنزانات فكرية بمربعات صغيرة صنعتها صفوف واعمدة مصفوفة معتقدية لتنشد ثقافتها لنفسها في عالم خلا تماماً من اوكسجين الحرية .انها ازمنه اضاعت الامة فيها اقلامها لتكتب فصول حريتها على جدران من اللاشي في محاجر معتقلاتها الثقافية.
واخيرا وليس آخراً،يطل علينا المفكر حسين العادلي في مقاربة جدلية أطلق عليها قائلاً:
• الدكتاتورية (تحكم) بالإمَّعَات، والديمقراطية (تسيّد) الإمَّعَات،..
(الإنبطاح) سلُم الإمَّعَة لدى الحاكم، و(الإنتهازية) سُلّم الإمَّعَة بالديمقراطية،..
يا لغرابة المقاربة!!
• الإمَّعَات: (وعاء) الكهنوتي، و(مطية) السياسي، و(بوق) الأيديولوجي.
وكما لا يُحيي (الدواء) مَيتاً، لا يستشعر (المهانة) إمَّعة.
إنما الإمَّعَات (قمل) المجتمعات، و(سوس) الدول.
وبهذا فقد عبر العادلي عن اشكالية جدلية تناولت (الإمَّعَات )كانهم وقود بشري معتل لتحريك دواليب اللعبة الصفرية zero sum game وتزيت ادواتها بما يسمح للطرف المسيطر والغالب والمتسلط الحصول على كل شي بمؤازرة الامعات في مراحل تطور الاستبداد ،ولايسمح للامعات من الحصول على اي شي مقابل واجباتهم مجانية سوى اللاشيء .اذ ظلت النظم المستبدة ومازالت تبني ستراتيجباتها على اللعبة ذات المجموعة الصفرية كلاً او جزءًا التي قوامها معادلة هي 🙁 +1-1=صفر).
فطالما ظل الامعات هم دون مرحلة العبيد ويؤدون الدور التلقائي المؤازر للقوة فان اللعبة الصفرية لا تتغير الا قليلاً حينما يتحول الامعات الى مرحلة في التطور نحو العبودية الاكثر تحرراً ومن ثم تتحرر الانسانية من اشكال عبوديتها تدريجيا حتى تبلغ المجتمعات رقيها الديمقراطي وسعادتها في التمثيل السياسي وبالتوزيع العادل للثروات وهي خالية من الامعات والعبيد معاً لنحصل على ارادة واحدة في المساواة قوامها الشعب الحر.
هنا يبلغ الرقي الاجتماعي مداه ضمن لعبة استراتيجية اكثر تطورا وهي اللعبة التعاونية cooperative game مادتها المواطنة الحقة . فالكل فيها يساوي واحد صحيح .ففي جدلية (هيغل) في التطور التاريخي ، تلازم الامعات ( اللعبة الصفرية) عند غياب العقد الاجتماعي والحريات الاساسية .وتلازم المواطنة بحقوقها الديمقراطية (اللعبة التعاونية )عند نشاة العقد الاجتماعي وتطوره عبر مؤسسات حماية الحريات الاساسية للافراد .وتخلو الحواضر في مجتمعات الحرة من العبودية (كشرط كفاية )ذلك بزوال الامعات وهي (كشرط ضرورة ) .فحتى يموت الاستبداد لابد من غياب البقايا المتاخرة للعبودية من الامعات وهم مضطربي السلوك والكارهين للحرية. فاذا كانت الإشكالية بكونها مسالة لم تحل بعد فهي تقبل الاثبات والنفي فانها ستظل تثير القلق الداخلي باستمرار وتعبر عن البحث الدؤوب والسعي غير المنقطع وراء الحقيقة . اي بمعنى الدخول على الوجود من بوابات السلب .فاذا كان الاكتفاء بالذات قاتل للنقد ،كما يقول محمد العجمي ، فسلب الذات على العكس موُلد ومنتج للنقد .اذ يراكم السلب التغييرات مع استمرار الاستعداد لدى الانساب للتفكير السالب . ومن هذه التبدلات الجزئية التي تتراكم سينتج في الاخير التحول الكبير في حياة الانسان او الجماعة نحو تمثّل وانسجام اعلى في الواقع ختاماً ، رفدني الدكتور المفكر عقيل الخزعلي بحكمة صحوت فيها عل فجر كتاباتي وهي تمسك بخيوط ثنائية (الذات والموضوع) والتي اوجزها الخزعلي بمنطقه العالي قائلاً: ” الكمالُ للانسانِ محالٌ ، لذلك إختر تميُّزك في عقلٍ يُنتِجُ افكاراً هادفةً، أو قلبٍ يُشرِقُ مشاعرَ دافئة، أو جسمٍ يصنعُ حِرفةً منشودة، أو روحٍ تَبثُ معانياً خلّاقة.
Comment here