المصلح والفيلسوف

المصلح والفيلسوف
الدكتور مظهر محمد صالح
انتابني احساس وكأني فارس يركب جواده في الهواء وهو يبحث عن ذلك الكون الذي جسده مبدع الرسم الكاريكاتيري الاميركي الشهير(بل واترسون) في مقولته الشهيرة:أن ثمة إشارة مؤكدة تدل بأن هنالك دنيا شديدة العقلانية توجد في مكان ما بين ظهرانينا ولكن على الرغم من ذلك لايوجد احد من اولئك العقلاء حاول الاتصال بنا!
سألت في سري من هم اولئك العقلاء واين يسكنون في هذا العالم الفسيح؟اجابني واترسون من بين رسوماته المعبرة ، انهم سكان جزيرة(انوتا) التي تقع في جنوب المحيط الهادي والتي لايتعدى قطرها 750متراً، واذا كنت تبحث عنها على خريطة الكرة الارضية ستجدها على بعد 400 كيلومتر جنوب شرق جزرسليمان في حوض الهادي.وهي ابعد نقطة جغرافية على سطح الارض.والمدهش في الامر، ان جزيرة(انوتا)قد قطنها السكان منذ ثلاثة آلاف عام بشكل دائم،ولكن ظل عدد سكانها ثابتا منذ مئات السنين ولايتعدى 300 انسان.
هناك رئيسان يحكمان الجزيرة وعلى وفق مبدأ يسمى (أروفا) اي (الحب) والذي ينص على العيش المشترك( الخير الاكبر للعدد الاكبر)فالمحاصيل والصيد البحري التي يولدها النشاط اليومي لسكان الجزيرة توزع بين الجميع بعيداً عن التبادل النقدي الذي اختفى في هذه الجزيرة إطلاقاً ، و لم يهاجرها أحد من اهلها الى جزر أخرى ،وان من يحاول العيش خارج النظام المشترك لابد من ان تسحقه الحياة الفردية وهي حكمة قالها احد كبار السن في هذه الجزيرة منذ عهد بعيد ويتمسك بقدسيتها الجميع الى يومهم هذا ! انها انموذجاً فريداً يجسد الضمير الجماعي المشترك الذي يتطلع اليه الرابحون وفي اي نظام تنافسي حر يسعد فيه الجميع وخال من الفقر والاحتكار.استيقظت على صوت يهمس في أذني ويقول لاتبالغوا في توطيد الحب (اروفا) في هذا العالم الساخن وان جزيرة( انوتا) هي مجرد ملاذ للحكمة البشرية!قلت هل التطلع الى المطلق في الفطرة البشرية هو هروب الى اللاشيء؟اجابني (بل واترسون) هذه المرة في كتاباته قائلا: انك لابد ان تبحث قبلها عن صراع الاضداد،فانظر الى رسومي الكاريكاتيرية في النقد الاجتماعي والتي ابتدأتها برسومي التي اطلقت عليها (كالفن وهوبس) وهل تعلم ماذا تعني في مضمونها ؟قلت في نفسي كلا.اجابني ،انه جمع الاضداد ! فاعني بالاسم الاول المصلح البروتستانتي الفرنسي الاصل(جون كالفن) مؤسس المذهب الكالفني في القرن السادس عشر الميلادي وهو من اتباع المدرسة اللوثرية (مارتن لوثر) التي تؤمن بالقضاء والقدر وتعتمد فكرة النداء.فلكل انسان نداء طيب في الارض يحصل على ما يماثله في السماء.اما الاسم الاخر وهو (هوبس) ،فقد اردف (بل واترسون) منوها انه يشير الى الفيلسوف الاجتماعي البريطاني(توماس هوبس) صاحب النظرية الداكنة للطبيعة البشرية في القرن السابع عشر ،عاداً البشر مادة وحركة تنفذ القوانين المادية نفسها.وامام الحالة الاصلية للحياة بكونها منعزلة وفقيرة وهمجية وحقيرة وقصيرة،فقد دعا الى نظريته في الفلسفة السياسية التي تقوم على العقد الاجتماعي.
وهكذا بدأ (بل واترسون) يخط رسوماته الكاريكاتيرية في كبريات الصحف الاميركية وهو يؤمن بانه يوجد بطل كامن في كل فرد ولكن يتطلع الى العيش المشترك وهو يرسم بصراحة، منتقداً المجتمع السياسي بصورة مثيرة للسخرية ولكنها توافق الرؤية العقلانية و الصدق الفطري المحيط بنا.
اعتزمت ان افك سلاسل افكاري ثانية وانا اتطلع بنظرة ذات نواة صلبة الى لغز صياد الكاريكاتير السياسي الاميركي( بل واترسون) في واحدة من رسومه و تخطيطاته الشهيرة بـ( كالفن وهوبس) المنوه عنها آنفاً و التي كانت تضمر في محطاتها وانتقالاتها نظرة قوية ودهاء خفيا من الحوار بين بائع العصير (قوى العرض) ومشتري العصير( قوى الطلب) والتي جاءت تحت عنوان الرأسمالية. وانا اتفحص العمق والمعنى من ذلك الرسم التخطيطي الذي بدا صارخ الغرابة وقلت في سري عندما انتهيت منه :كل قلم يتناول حال الرأسمالية كما يراها نقادها! وكنت اتلقى في الوقت نفسه احساساً هابطاً تلقائياً من ذلك الرسم الكاريكاتيري في الاقتصاد السياسي للرأسمالية والذي انتهى بي حقاً الى تجسيد الكيفية التي ينغمس فيها بعض المديرين في تعظيم المنافع والامتيازات الشخصية في المشروع الراسمالي على حساب تدنية ارباح اصحاب حقوق الملكية والمساهمين الاخرين ، ومن ثم لجوء المشروع بعد خسارته وتآكل ثروته الصافية الى طلب رافعة مالية مؤازرة قوامها الدعم والاعانة الحكومية!
وازاء اشنع تهمة في عصرنا الراهن وهي تهمة المساس في تسيير النظام الاداري الرأسمالي الحديث التي جسدها( بل واترسون) في رسوماته التي بنيت على اساس انفصال الادارة عن الملكية في المشروع الرأسمالي ، فقد ختم (بل واترسون) سلسلة رسومه الكاريكاتيرية التي بدأها في العام 1985وانتهى مغادراً فيها مسلسل( كالفن وهوبس)في العام 1995 ، ذلك بعيد تصويره كاريكاتيره الناقد آنفاً حول اختلال الشروط الموضوعية الناجمة عن ذلك الانفصال بين الادارة والملكية الرأسمالية والذي يطلق عليها اليوم في علم الاقتصاد الاداري (بالحوكمة …)ولكن الحوكمة غير الجيدة في هذه المرة .

Comment here