فبراير 5, 20210
مظهر محمد صالح: لينين , همس عراقي في ذكرى وفاته
الدكتور مظهر محمد صالح
أضاء الصباح جنبات الطريق الذي يخترق المدينة الصغيرة التي تقبع في قلب الفرات من العراق،واطلقت الشمس في ساعة باكرة من يوم الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 1959 شعاعا باهتاً من اشعتها على النافذة الوحيدة من سكن العم سعيد ،
لتوقظ الرجل من نومه،قبل ان يصحوا على نقر دمام حزين بات صوته يغرق
مسمع الرجل خوفاً ووجلاً ..وليخبره انه في يومنا هذا قد انطفأت فيه روح الجمال بذكرى حزنه، و غاض السرور من الالوان والنعم والبهجة، الا اللون الاسود الذي امتزج بصوت مطرق الدمام الاعزب .
ثم بدء الصوت يصرخ في ارتفاع يتلوه صمت شديد الحزن حتى جفت فيه مواقيت افطار صباح العم سعيد .فكان حامل الدمام يومها رجل اسمر السحنة ممشوق القامة عيناه يقضتان بلا نعاس ، يقرع دمامه الكبير بشكل متقطع ليطلق حزناً يتبعه صدى اشد وقعاً ليشتق حزنه بصمت من احزان جذرها ارض اسمها السواد انتابها القهر على مر التاريخ بجراح عميقة لم تندمل بعد، انها بلاد مابين النهرين.
يروي العم سعيد كيف تحولت مدينتهم الصغيرة ،التي احتضنتها كثافة زروع الارض التي لامست مجرى الفرات من كل صوب،الى ارض مقفلة في ذلك النهار باستثناء المسير البشري الذي ظلله تزاحم المزارعين وهم يتثاقلون فرادا بارجلهم وباصطفاف منتظم ،بات فيه الرجل الاول يتقدم على الثاني ،زاحفين سيراً بالتوالي وكانهم قطيع نمل خرج ببطئ من جحوره غير آبه سعيا وراء حبات من القمح تسد رمقهم. فيومها امتزج العقال العربي الذي اعتمر رؤوس المزارعين بنسيجه الفراتي الاصيل ولونه الداكن مع خرقة القماش السوداء المهلهلة التي رقدت بثبات في اعلى شمال جلابيبهم الفاقعة اللون كافة لتغلبها نسائم الصبح الباردة وتقلبها يميناً وهي تداعب بلا ريب تلابيب عقولهم وجروح قلوبهم التي اغرورقت بدموع الحزن الانساني .
ولكن لماذا هذا المسير اللافت في هذا اليوم تحديداً؟تسائل العم سعيد قبل ان يتأهب مسرعاً للذهاب الى عمله ، وهو يتطلع الى قائد ذلك المسير وهو يطرق ابواب الحزن بدمامه وكانما يقطر دماً!!آه من هذا الرجل الضعيف الواثب الطويل ، ذو السمرة الداكنة الذي يتطلع بنظرات ساخنة شديدة التاثير تغشاه كآبة في يوم قارص اشتد برده…؟؟ولكن سرعان ما نسيت…لا أتذكر انه المزارع السياسي ابن العم جاسب الذي تعود أن يقرأ في مقهانا نصوص من كتاب لينين : ما العمل….؟وهو الكتاب الذي نشر عام 1902 والذي يتطرق فيه لينين الى اهمية التثقيف الماركسي لتحريك الطبقة العاملة للمطالبة بظروف عمل افضل واجور اعلى .
حقا انه ابن العم جاسب الذي كان يواضب على زيارتي في بعض الاعياد والمناسبات ،فنشات بيني وبينه صداقة وهو رجل شديد الابتسامة ،الا انه قد حلت به اليوم قوة حزينة وهو يمارس تقاليد تخنق الانفاس.ناديته ،يقول العم سعيد ،بصوت خافت ما الخطب يارجل ؟؟وهو يضرب بدمامه وخلفه جموع ثكلى من المزارعين ،ثم تواصلت نداءاتي كي استعلم المسير ورمزيته ولكن من دون جدوى ،اذ ان وجدان ابن العم جاسب وهو يحمل دمامه لم يتسع لسماع صوت آخر وظل دون اكتراث لاحد. وقف العم سعيد بكل ثقله يراقب ما يحدث بعينين طافحتين بالعجب والصمت وهو مشحن بالصبر ،هنا جاءت الاجابة بصورة تلقائية من احد المارة ،الذي سأله العم سعيد، وبحزن وزفير شديد القساوة …قائلاً:الم تعلم ايها الرجل ان اليوم هي الذكرى الرابعة والثلاثين لوفاة زعيم الثورة الروسية البلشفية فلاديمير لينين الذي مات في مثل هذا اليوم من العام 1924 !الم تتذكر انه في 30 آب/اغسطس 1918 تعرض لينين الى حادث اطلاق نار في العاشرة ليلاً اثناء مغادرته مصنع (ميكلسون ) في احدى ضواحي موسكو واستقرت ثلاث اطلاقات في جسمه وان الجريمة فعلتها فتاة لم تبلغ من العمر يومها ثمانية وعشرون عاما وتدعى:فاني كابلان وهي من الحزب الاشتراكي الروسي الثوري.. ؟اتتذكر كيف جرى اعدامها بعد اربع ساعات من الحادث و قطعت جثتها أربا اربا انتقاماً لفعلتها الشنيعة ؟ اجابه العم سعيد بدهشة نعم.وواصل الرجل قائلاً: ان موسكو قد دخلت حزنها ولبست سوادها منذ يوم امس والعالم كله يقدم قسط الحب والوفاء لقائد الثورة العمالية في ذكرى وفاته في العام 1924.وهنا اخذ قلب العم سعيد يتمزق عطفاً وهو يقول لمحدثه قد اضطر بنفسي للانضمام الى المسير !ولكن لماذا هذا الحزن الشديد على الرجل في مدينتنا الفراتية الصغيرة والحادث يبعد عن بلادنا كثيراً؟اجابه الرجل انه زعيم الثورة البلشفية في العام 1917ونحن فلاحي الفرات لن تخفت احزاننا ..ثم أخذ المتحدث يبكي بحرقة حتى جف ماء عينيه.
ويقول العم سعيد انه من شدة احزان مدينتا الصغيرة ظننت إن لينين لم يمت ولكنهم غدروه واختفى بوسيلة خائنه.هنا توقف العم سعيد عن الكلام هنيهة وتوجه الى محدثه قائلاً: ان استمرار بكائنا لن يغير من الامر شيئاً،اجابني : اذن لنراقب الموكب حتى نهايته .. فاجبته نعم …سينتهي المسير ونحن لانشهد من الزمن الا اللحظة العابرة ..اجابني محدثي قائلاً :كلا فان المسير يهاجر الى صورة للرفيق لينين وضعت عند نهايات شارع المدينة. هنا تحسس العم سعيد بان المسير يهاجر حقا لصد هجوم دفاعا عن هموم مزارعينا وان الجميع اخذ يردد قائلاً: الخير لا ينهزم والشر لاينتصر ولكن سنبقى نشهد من الزمان الا لحظات عابرة دفاعاً عن المحبة والسلام!
لقد لخص قائد المسير (المولع بكتاب لينين :ما العمل ..) خطابه،قائلاً ان لينين شهيداً وان المجرمين لن يترددوا من انتحال الاعذار لاشباع رغباتهم الاثمة في البطش وسفك الدماء لجر الناس الى الهوان وتمزيق الاوطان .
وهكذا عبرت جموع مزارعي مدينتنا الفراتية الصغيرة قبل ستون عاما ونيف وبايمان عفوي قوي وراسخ بأن في (مناجلهم )حيزاً من الانجذاب نحو ( مطارق) عمال مصنع (ميكلسون ) وان تجاذبات مزارعي اطراف مدينتنا الفراتية نحو عمال العالم كانجذاب الفراشة الى وكر النحل وبحرية دون ان ترفس باغلال الماضي وهم يغردون باهازيجهم الحزينة لاشاعة الطمئنينه والسلام بينهم .ولكن هل ظل كتاب لينين يردد عنوانه بيننا …حتى الساعة …..مالعمل؟لا ادري.
Comment here