فبراير 4, 20210
دكتور مظهر محمد صالح :الرغيف المغترب.
الرغيف المغترب
الكاتب:د. مظهر محمد صالح
قطعت حافلة الركاب التي اجتازت حدود الصحراء الغربية قبيل الفجر وطلال مازال يفكِّر بمرارة الكفاح التي قضاها مغترباً يبحث عن سبل العيش وهو ابن تلك العائلة الكريمة، الكبيرة الاعتداد بنفسها وقوية الشكيمة والتحدي، لا جاع يوماً فيها احد ولا تعرَّى ولاتشرَّد. ولكن في غفلة الايام من تسعينيات القرن الماضي وجد طلال بلاده قد تدثَّرت بدثار العوز والجوع وصار حال اهلها بلا مأوى ولامال ولامعين والبلاد كلُّها في قبضة عصبة قاسية تنكَّرت بنفسها لهول الاحداث ولايحيطها همٌّ ولا كربٌ ولاحاجة ازاء عاديات الزمن.
قطعت الحافلة تلك الصحراء وطلال يحلم بلحظات الوصول الى أسرته التي ستستقبله بفرح غامر وهو يحمل هداياه لهم بعد مشقَّة الدرب الطويل. وقبل ان يتهيَّأ الجميع للنزول وبدقائق من بلوغ الحافلة مرأب الوصول في قلب العاصمة، سأل الراكب الذي جلس الى جوار طلال مشددا القول: ماذا جلبت من هدايا لاهلك يارجل؟ اجاب طلال ألمْ ترَ هذين الكيسين الشفافين الكبيرين من الخبز الابيض عسى ان يسعدوا بها بعد ان خطف الجوع حياتهم وبات شظف العيش ملاذاً خاوياً لهم! ضحك الرجلان بأسى على حال امة فقدت رغيفها وهي تبحث عن سبيل ادنى للعيش حتى من رغيف بارد جائع منطوي.
عاود الرجل سؤاله لطلال: ماذا حصدت إذن من مال ياطلال بعد ان قضيت عامين في الغربة وانت مكبل بهذين الكيسين من الخبز الابيض؟ اجاب طلال من فوره وهو يتنهَّد اسىً وحزناً عميقاً، لم احصد ايها الرجل سوى عالم فارغ بلا صديق ولا اهل ولكن حصدت شيئاً قليلاً من الطمأنينة صاحبها الكثير من الآلام ،اما الغبطة فقد غادرتها هي الاخرى ولاعهد لي بها .
ترجل طلال وهمَ بالنزول بعد ان توقفت الحافلة في قلب بغداد الكرخ وكان قبلها يتطلع الى ذلك الاكتظاظ المهول من الجنود الذين تبحث عن وجهة نقلها او رحيلها وترحالها في بلاد عُسكر ابناؤها وهم بانتظار الحروب الواحدة تلو الاخرى وهي خالية من مقدساتها.
تذكَّر طلال تلك الجموع الهائمة التي انتشرت بدون انتظام بعد ان خوت اجسادها وطوى الجوع ابدانها ليتذكر قول نابليون: الجيوش تزحف على بطونها، مستذكراً اهمية اطعام الجنود واشباعهم، اذ تشكل الحصص الغذائية ووجباتها الركن الرئيس في المواد اللوجستية المقدمة للجند سواء في تموين الثكنات العسكرية بالطعام المطبوخ او في تموين الميدان بالطعام المعلب او الجاهز. غادر طلال ادراج الحافلة وهو يحمل هديته لاهله كيسين من (البلاستيك) في كل كيس اقراص من الخبز الابيض البارد الذي فقد دفئه.
لم يتقدم طلال الا بضعة خطوات واذا بالجند قد انهالوا على اكياس طلال الممتلئة بالخبز لتحيلها في ثوان معدودات الى ركام من اللاشيء في جوف تلك الابدان الخاوية الا من الجوع، اندهش طلال وتراجع خطوة الى الوراء وتساءل في نفسه: كيف سيقاتل اولئك الجند الذين عج بهم مرأب السيارات في محاور وجبهات الحرب المجهولة وهم من قال عنهم نابليون الجيوش تزحف على بطونها؟
اخيرا، انتهى طلال برغيفين من اقراص الخبز التي جلبها معه وامامه الجندي الاخير وهو يتطلع الى طلال منكسر الخاطر، هنا تبسم طلال قائلاً له لم يبق معى سوى هذين الرغيفين احدهما سيكون من نصيبك والاخر سأقدمه لعائلتي كعربون لغربتي بعد عامين من الفراق والعودة اليهم بهذا الرغيف المغترب…
Comment here